أكبر ضحايا الأزمة الاقتصادية…
جاء في “الشرق الاوسط”:
يشعر مازن الموظف في بلدية بيروت بالعجز، ولم ينصفه هبوط أسعار العقارات في لبنان لشراء شقة صغيرة تجمعه وخطيبته تحت سقف واحد بعد 3 سنوات على الارتباط. يحكي الشاب الثلاثيني الذي لا يتخطى راتبه المليوني ليرة (نحو 100 دولار) لـ«الشرق الأوسط»، أنه كان يعوّل على الحصول على قرض من مؤسسة الإسكان لشراء بيت صغير خارج العاصمة، إلا أن الأزمة الاقتصادية التي حلّت بالبلاد والهبوط المدوي للعملة الوطنية، وتجميد القروض على أشكالها، أحبطت مخططه.
وعلى وقع الانهيار الاقتصادي، يشهد القطاع العقاري في لبنان حالة من الركود، وانخفضت أسعار الشقق إلى أقل من النصف في بعض المناطق، إلا أن هذا الهبوط الكبير لا يعني أن التملّك بات متاحا للبنانيين، لا سيما من يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية ولا يملكون العملة الصعبة، في وقت يلامس سعر صرف الدولار الواحد في السوق الموازية 21 ألف ليرة لبنانية. ويطلب مطورو العقارات وأصحابها الدفع بالدولار النقدي، ويقول مازن، إن سعر شقة مساحتها 90 متراً في منطقة عرمون أو بشامون أو السعديات (جنوب العاصمة) هبط إلى نحو نصف السعر الذي كان رائجاً قبل الأزمة، لكنه يشير إلى أن الرقم مهما انخفض «سيبلغ مئات ملايين الليرات»، وبالتالي «الأسعار انخفضت بالنسبة لمن يتقاضون رواتبهم بالدولار، أما نحن الفقراء الجدد فنتقاضى رواتبنا بالعملة الوطنية… ضاعت فرصتنا بالتملّك وحتى خطوة الإيجار صعبة، وسأضطر إلى السكن مع أهلي أو الانفصال». وينتقد أستاذ استراتيجيات الاستثمار في الأسواق العقارية في الجامعة اللبنانية الأميركية جهاد الحكيّم «السياسات التي قامت بدعم المطورين العقاريين والنافذين ومن لا يستحقون الدعم بمليارات الدولارات على مدى سنوات، إلى أن نضبت مصادر التمويل وتوقف الإسكان والقروض العقارية وصولاً إلى الانهيار المالي وانعدام القدرة الشرائية لدى اللبنانيين».
وباع اللبناني عبد الله البيت الشاسع في منطقة الطريق الجديدة الذي ورثه عن والده بربع ثمنه وانتقل إلى «بيت القرية» في قريته الشمالية، بعدما حجزت المصارف على «جنى العمر»، حسبما يحكي لـ«الشرق الأوسط»، ويقول «خلت جيوبي من السيولة فوجدت نفسي عاجزاً عن تأمين متطلبات الحياة لي ولزوجتي أو دفع تكاليف طبابتنا».
وبعد إجراءات المصارف بحقّ المودعين، يقول الرجل المتقاعد، إنه كان أمام خيارين «أحلاهما مر»، إما تحميل أولاده أعباء مالية إضافية تزيد أوزارهم التي فرضتها الأزمة الاقتصادية، أو بيع عقار.
ازدهار تلاه ركود
في السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية، شهدت سوق العقارات في لبنان ازدهاراً على اعتبار أن الاستثمار فيه هو «الملاذ الآمن»، وبحسب الرجل الذي أصبح في أواخر عقده السابع، عرض عليه بيع البيت عينه في العام 2016 بـ200 ألف دولار، ورفض حينها لأن قيمته المعنوية والاستثمارية كانت أكبر بكثير، أما الآن فقد باعه بـ75 ألفاً فقط، ويعتبر أن «تسييل أي استثمار جامد للعملة الصعبة هو الأهم في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة». وفي حين يقول بعض الخبراء، إن انخفاض أسعار العقارات يتراوح بين 30 و40 في المائة في لبنان، يصرّ الحكيّم في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» على أن أسعار الشقق والعقارات انخفضت بعضها إلى 70 في المائة بالدولار النقدي، ويتوقع أن «يواصل العقار انخفاضه في المستقبل وسيكون العرض على البيع أكثر»، علماً بأن تجار العقارات لم يخفضوا أسعار عقاراتهم الجديدة إلى هذه النسبة، ويتفاوت ذلك بين منطقة وأخرى.
ويشير الحكيّم إلى أن «الكثير من أصحاب العقارات باتوا اليوم يخفضون أسعار شققهم بغية بيعها والحصول على الدولار لتأمين متطلباتهم اليومية والحياتية»، ويشرح أن «هناك خيارين أمام المواطن اللبناني، إما الموت أو بيع العقارات والأملاك، ولا يمكن إنكار أن العقارات أصبحت تباع بأسعار منخفضة مقابل الاستشفاء والطبابة».
على المقلب الآخر، استفادت قلّة قليلة من مدّخري الدولارات جراء هبوط سوق العقارات، فحقق اللبناني وسيم وزوجته حلمهما بتملك بيت صغير في العاصمة بسعر 45 ألف دولار. ويخبر وسيم المتزوج منذ 8 سنوات «الشرق الأوسط»، أن ارتفاع سعر العقار في العام 2014 لم يسمح له بالسكن في بيروت وأجبره على «النزوح» وشراء بيت في بلدة الدبية (تبعد نحو 20 كيلومتراً عن العاصمة لجهة الجنوب) مساحته 100 متر بسعر 120 ألف دولار وبقرض من المؤسسة العامة للإسكان، ويقول «حينها كانت فكرة التملّك في العاصمة خارج نطاق البحث؛ لأن سعر الشقة الصغيرة في منطقة شعبية في بيروت يتخطى الـ200 ألف دولار».
ويشرح الموظف في إحدى الشركات التي تدفع الجزء الأكبر من رواتب موظفيها بالعملة الصعبة، إنه كبعض اللبنانيين، قام بشراء بعض الشيكات المصرفية من المودعين العالقة أموالهم في المصارف فحقق أرباحاً سمحت له بتسديد قرض إسكان شقة الدبية بالكامل وبيعها بـ30 ألف دولار العام الماضي، وادخار مبلغ إضافي مكّنه من شراء مسكن في العاصمة».
وبحسب الحكيّم، فإن فئة صغيرة جداً من اللبنانيين والمتمولين يستطيعون اليوم شراء عقارات، موضحاً أن «هؤلاء يبحثون عن مواصفات محددة وبطريقة انتقائية، فمثلاً يتجهون إلى اقتناء منزل مطل على البحر أو في العاصمة بيروت أو بمساحة أكبر أو بيت صيفي». ويؤكد أن «السوق العقارية ستشهد عرضاً متزايداً لشقق بأقل من سعر الكلفة، خصوصاً أن الطلب متدن جداً، فمثلاً إذا كانت الشقة المعروضة للبيع بـ30 ألف دولار ستكون كلفة بنائها 50 ألف دولار».
– المودعون دفعوا ثمن التضليل
في بداية الأزمة، عمد بعض المودعين إلى تهريب مدخراتهم وأموالهم من المصارف عبر شيكات مصرفية استثمروا من خلالها في سوق العقارات، وترجم ذلك في العام 2020 بحدوث هجمة كبيرة في عملية البيع والشراء، وبحسب دراسة أجرتها لـ«الشركة الدولية للمعلومات»، سجّلت 82 ألف عملية بيع وشراء بقيمة 14.4 مليار دولار.
ويقول الحكيّم، وهو مستشار مالي ومن أول الأشخاص الذين توقعوا الانهيار العقاري والمالي في لبنان في العام 2016، «المودعون الذين استثمروا في العقار خسروا نحو ثلثي ودائعهم، وهم معرّضون لخسائر أكبر في المستقبل».
وفي حين شجع بعض الخبراء المتمولين في العامين 2019 و2020 على الاستثمار في قطاع العقارات، يؤكد الحكيّم أن تلك النصائح المغلوطة ضلّلت المواطنين وكبّدت المودعين خسائر جمّة، مشدداً على أن أي استثمار، مثل شراء سبائك ذهبية أو الاستثمار بالعملات الرقمية أو شراء أسهم أو عقارات خارج لبنان، هو أفضل، ويفسّر «بمقارنة بسيطة، من حسم أمواله العالقة في المصارف واشترى سبائك ذهبية مع بداية الانهيار المالي في العام 2019 حقق أرباحاً بأكثر من 30 في المائة وبالدولار النقدي، أما من قام بهذه الخطوة في أآب من العام 2018 يكون قد حقق أرباحاً بنسبة 70 في المائة، والأهم أن السبائك الذهبية يمكن تسييلها إلى الدولار متى شاء المستثمر، أما من أخذ بنصيحة بعض الخبراء واستثمر بالعقار فقد تكبّد خسائر، وباتت أمواله مأسورة بعقار يصعب بيعه».