عن ذلك الانفجار.. القديم
كتبت باسكال لحود في “اللواء”:
بحثتُ طويلاً عن الاستعارة التي قد تُساعدني على تمثُّل عُمق المأساة وشمولها وفداحتها. جرَّبتُ التحلُّل البيولوجيّ، والانهدام الكونيَّ الكبير (Big crunch)، ثمَّ الانبلاع (implosion)، لكنّني انكفأتُ في نهاية المطاف إلى شيء أكثر بساطة: السرطان.
بداية السرطان أخطاء في عمليّة تكاثُر الخلايا. أخطاء في نسخ الـ «دي. أن. إيه»، أي في هويّة الخليّة، في «معلوماتها» عن نفسها ووظائفها، تنبري بسببها خليّة في ذراعك تُنتِج ظفراً مثلاً، كيما أستعيد استعارة برنارد فلتز. تتراكم الأخطاء، وتعجز الخليّة عن تصحيحها، لكنَّها، في الوقت عينه، تتجاهل المؤشِّرات التي تملي عليها أن تنتحر (apoptosis) في حالات كهذه، فتستمرُّ في التكاثُر بدل أن تموت، وفي استنساخ نفسها نسخاً ممسوخة.
هل نحن في دولة كلّ من خلاياها في هذه المرحلة، أيٌّ منها، ما عادت تقوم بالوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها ليبقى الجسم الذي تنتمي إليه على قَيد حياةٍ تستحقّ الحياة؟
لا أحد يقوم بعمله. رجال الدّين عندنا يَفتون في قيمة الأعمال الفنِّيّة وصحَّة السياسات النقديّة. النقابات عندنا تُنظِّم مُظاهرات أحزاب السلطة؛ الإعلام عندنا مُعتكف عن إعلامنا بأيِّ شيء، مُكتفٍ بالصراخ وافتعال الدراما الرديئة؛ الحكومة تشكو فساد الإدارة التي تديرها بنفسها؛ أجهزة الرقابة عندنا تتفادى كلَّ ما يستأهل الرقابة.
رئيس الحكومة عندنا ليس مسؤولاً عن حكومته، لأنَّ قراراتها تؤخَذ بالتوافُق، أي بالتعطيل المُتبادَل. الحكومة ليست حكومة، لأنَّ لا رؤية ولا برنامج فعليّاً يَجمعها، ولا مصلحة لأيٍّ من أعضائها في نجاحها. والوزراء ليسوا وزراء لأنَّهم ودائع أحزابهم في الحكومة. والأحزاب ليست أحزاباً، لأنَّها وكالات عائلات أو طوائف أو دول خارجيّة. والنوّاب ليسوا نوّاباً، لأنَّهم استقلُّوا إلى النيابة لائحة لا يجمعهم بها سوى المصلحة الانتخابيّة، أو لأنَّهم مجرّد «أسهم» بيَد «زعيم» داخل شركة مجلس النوّاب. الحكومة ليست مسؤولة، ومَن سيُسائلها طالما هي مجلس نيابي مصغَّر.
وضمن هذه الدوّامة السرطانيّة، لكَ ملء الحريّة، أنتَ المُواطِن الصالح، في أن تُعانِد وتقوم بما تعتبره صواباً، لأنَّكَ مهما عاندتَ وقاومتَ لن تُهدِّد الدوّامة، هذي الماكينة الشيطانيّة التي تنتج محصِّلات خاطئة مهما كانت المقدِّمات. ماكينة تهضم كلَّ شيء وتُخرِجه نفاية. تُعيد تدوير أيّ فكرة وأيّ فِعْل، بحيث لا يعود المرء يعرف نفسه في أفكاره، ولا يعود متأكِّداً ممّا يريده.
أنتَ، على الأرجح، لا تُريد الانتماء إلى مصرف لديه دولة، ولكنَّك لا تريد أن تدفع بشعب بأكمله إلى الجوع لمجرَّد تلزيم دولتك لمصرف آخر. لا تريد أن يموت مواطنوك على جبهات اليمن وسوريا، ولكنّك لا تريد كذلك أن تذهب وإيّاهم أذلّاء إلى المُفاوضات مع إسرائيل، ولا أن توقف الحرب ليربحها السماسرة، مرّة أخرى. لا تريد أن تدور في فلك إيران، ولا في فلك السعوديّة ولا تركيا ولا إسرائيل، ولكنّ أحداً لا يريد دعْم مُقاومتك لأيٍّ من تلك الهَيمنات ما لم تسلِّم بأخرى. لا تريد التفريط بحرِّيّة الإعلام في لبنان، لكنَّك لست غبيّاً. تعرف أنَّ دخلك القوميَّ بأكمله لا يكفي لتمويل كلِّ هذه «الحرِّيّة» المَوسميّة بحملاتها وشركاتها ومَواقعها الإلكترونيّة…
أنت عالق في وطن تكوَّن أو أُدير (أو كلا الأمرَين)، بحيث يكون كلُّ شيء ونقيضه لعنةً عليه (وعليك). افتقاره إلى الموادّ الأوَّليّة لعنة، واكتشافه ثروته النفطيّة أو الغازيّة لعنة، وانفتاحه على الغرب لعنة، واستدارته نحو الشرق لعنة، وانحيازه لفلسطين لعنة، وحياده لعنة. البحر أمامه لعنة، والبرُّ من ورائه لعنة، واستقباله اللاجئين لعنة، وعدم استقبالهم كذلك. في هذه الملعونيّة المُطبقة، لا قيمة لحيرتك وتردُّدك الكورنيليّ (نسبةً إلى أبطال مسرح كورني Corneille). تفكيرك ليس حرِّيّة، هو تسمُّم بطيء بالذنب والعجز وكره الذّات.
انفجار بيروت؟ سوبرنوفا
العصْف والوهْج وصلا إلينا في 4 آب (أغسطس) 2020… لكنَّ النجمة ماتت من زمن.
من يَوم ارتضت أن تتداوى من الحرب على أيدي السفّاحين.
من يوم زمَّت عاصميَّتها الثقافيّة حتّى اقتصرت على شارعَين ومتحف، وانكفأ الكِتاب فيها، حتّى فصِّلت معارض الكُتب على الطوائف، واستقرَّت كُتب الأبراج والطبخ على رأس قوائم المبيعات. يوم خَفَتَ النقاش الثقافي العامّ فيها وما عاد يعلو إلّا في ما يخصّ واجب احترام المقدَّسات، وإدانة التطاوُل على الرموز وإثارة النعرات الطائفيّة.
ماتت يوم تحلَّل نسيجُها المدينيُّ واستحالت مُجمَّعاً تجاريّاً. يوم ضاقت بالبشر والمَسارِح والصُّحف والجامعات واتَّسعت لبيوت المُتنفّذين وانفلشت من حولها أسواقاً وأنصاباً وأضرحة وخنادق. يوم صارت حريّاتها مُطابِقة لمُواصفات المُموّلين وبائعي التقوى. يوم ما عادت تخجل بالنفايات تملأ ساحاتها، وبلوحات الشكر والتسوِّل تملأ شوارعها، وبزينة الأعياد المَنسيّة على أعمدتها، دميمة وسخة.
تشرب رشفة أولى وأخيرة من قهوتك الكريهة («المدعومة»، فهُم قرَّروا أن يسرقوا مدَّخراتك، ويمسخوا عمْلتك وَرَقاً ملوَّناً، ثمَّ يشفقوا عليك بدعْم مُشترياتك… من مدَّخراتك).
انفجار بيروت؟
قنبلة فراغيّة. امتصَّت ما بقي من هواء، وكان قليلا أصلاً.
هل تنهض؟ لا أعرف. لا أستطيع تخيُّل المعجزة المطلوبة لمحو مفعول سنوات من الانحدار والتحلُّل والانهدام والانبلاع والامتناع عن الانتحار الشافي. لا أستطيع تخيُّل المعجزة التنمويّة التي ستنتشل الملايين من الفقر وتؤمِّن لهم تعليماً نوعيّاً وفُرص عمل حقيقيّة، وانخراطاً سليماً في مُجتمع المواطنيّة. لا أستطيع تخيُّل المُعجزة الثقافيّة التي ستُعيد السياسة في أذهاننا وسيلةً للكرامة والتنمية والسعادة والرفاه. لا أستطيع تخيُّل المعجزة العلاجيّة التي ستُعيد كتابة حمضنا النووي، وتردُّنا بشراً أسوياء.
هل تنهض؟ لا أعرف. نصيبي من البلد هذه اللّاأعرف.
أمّا هُم… فلديهم إجابات. سيكتفي الأوَّلون بإطلاق حملة استدانة كفيلة بأن نندم بعد عشر سنوات لأنّنا لم ننتحر اليوم…. سيكتفي الآخرون بالمُفاخَرة بأنَّهم قاوَموا الحِصار ومشاريع الإخضاع وعزَّزوا حصَّة طوائفهم في السلطة. سيتحالفون مجدَّداً. وقد يتبادلون مرحليّاً المَطالب والشعارات. سنهلِّل لمُصالحتهم. باتت هذه المازوشيّة جزءاً من هويّة خلايانا. وسنمشي خاشعين إلى الانهيار التالي.
مَن سينجو؟ الإنسان الأخير، ذاك الذي يبقى إلى الأبد بحُكم صغارته نفسها، كما قال نيتشه. أمّا كلُّ ما هو كبير ونبيل، فلن يستطيع الدخول من خرم الإبرة هذا. الغد لمَن سينبطحون حتّى الانسلال تحت الباب الذي صَفَقَ بوجهنا، وبَتَرَ أصابع أحلامنا. الغد كالعادة للَّذين سيمتطون مُتباكين مَواكِب جنائزنا، مَن سيثرون من تجارة الشفقة، مَن سيستمرُّون بالكلام والبعط، كما لو أنَّ العالَم لم ينته.
ها أنا أبحث عن كلمة أمل أربِّت بها على وجعي، ولا أجدها. تحضرني ابنتي شادن تقول إنّ الكلمات اختُرعت لتَصِف الأشياء، وأنَّ أحداً لن يكلِّف نفسه استحداث كلمة لا تحيل إلى شيء. أرجو في هذه اللّحظة أن تكون شادن على حقّ، أقلّه في ما يخصُّ كلمة معجزة.
mtv