اللبنانيّون والرغيف.. قصّة نضال مستمرّ ضدّ “التجويع”
كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
أمام صندوق المحاسبة داخل أحد أفران بلدة جونية، وقف «العم» أبو الياس، الذي يعرفه كل سكان المنطقة، كونه حارساً ليلياً، حاملاً ربطتي خبز، هما ما تحتاجه عائلته المؤلفة من 6 أفراد، منتظراً دوره لدفع الحساب.
«عشرون ألفاً»، قالت الموظفة… قبل أيام كانت ربطة الخبز بسبعة آلاف، لكنها مع ارتفاع سعر الدولار أصبحت بعشرة آلاف.
ارتبك الرجل الستيني، وأرجع ربطة الى أحد الرفوف، مكتفياً بواحدة، وهو يتمتم «حتى الخبز سنقتصد فيه»، وسط ذهول وغضب الموجودين.
للبنانيين مع رغيف الخبز قصة نضال مستمرة منذ قرون ضد سياسات التجويع التي تعرضوا لها على مر تاريخهم. وتتداول الأجيال قصة البطريرك جبرايل حجولا الذي كان فاراً من العثمانيين وتوقف أمام طابونة ليأكل رغيفاً طازجاً ويبارك النساء اللواتي يخبزن للفقراء.
واليوم، وفي بلد الأزمات والمفاجآت، باتت الطبقات الأكثر فقراً تعاني من الحصول على «خبزها كفاف يومها».
قبل اندلاع الأزمة في 2019 كانت ربطة الخبز بـ1500 ليرة ثابتة على سعرها كما الدولار. ومع استفحال الأزمة وشح العملة الخضراء في البلد بدأ الحديث عن رفع دعم جزئي لأسعار المحروقات، مع تأكيد المسؤولين على إبقاء الدعم على الطحين، ذلك أن مجمل تكلفته الشهرية لا يتعدى 12 مليون دولار.
في الأسابيع الأخيرة، عمدت السلطة المفلسة إلى وقف تدريجي لكل أشكال الدعم، من دون أي اعتبار لحماية المجتمع من تداعيات هذه الإجراءات.
ارتفاع أسعار المحروقات تخطى الزيادة على تكلفة النقل، وأصاب جميع القطاعات الإنتاجية والخدماتية والصناعية وانعكس بشكل مباشر على القدرة الشرائية للأسر، حيث إن كل ارتفاع بقيمة 0.25 دولار لليتر المحروقات يؤدّي إلى انخفاض قيمة الأجور الحقيقية للأسر بنسبة %5.4.
الخبز ضحية رفع الدعم
سلك الخبز رسمياً مسار المحروقات، وبات سعر الربطة يتغير أسبوعياً، مع ارتفاع سعر القمح عالمياً وسعر الدولار محلياً، ورفع الدعم عن المازوت، وتأتي الزيادة أحيانا طفيفة في مقابل خفض وزن الربطة وتصغير حجم الرغيف.
وإزاء عجز الدولة عن تحصين الأسر الفقيرة، وقد تخطت الـ%70 من اللبنانيين، برزت مبادرات فردية لا تحل أزمة جماعية، بل تسهم في تخفيف وطأة المعاناة عن بعض المواطنين.
وعلى غرار مبادرة اللبنانيين على وسائل التواصل لتأمين الدواء والحليب لمن يحتاج إليهما، واندفاع المغتربين للمساهمة في هذا المجال، تبرع بعض الميسورين ببناء فرن خيري لتوزيع الخبز على المحتاجين مجاناً، واتجهت بعض العائلات إلى صناعة الخبز منزلياً بواسطة أفران بدائية.
«طابونة» كور
جون اللقيس ابن بلدة كور في جرد البترون شمال لبنان، يروي لـ القبس عن «طابونة» كور كما يسمونها، وهي أشبه بالتنور وعمرها أكثر من 500 عام.
هذا الفرن رغم مرور السنوات حافظ عليه أهل القرية وحموه من الاندثار، وهو مصنوع من حجر الطوب يتحمل الحرارة. وتجتمع نساء القرية مرة أسبوعياً لصنع الخبز، وفق مواعيد مسبقة لكل أسرة. وكل عائلة تخبز نحو 100 رغيف يكفيها لمدة شهر أو ثلاثة أسابيع.
يروي اللقيس أن هذا المشروع بدأ العمل فيه منذ نحو سنة، مع اشتداد الأزمة المالية وصعوبة وصول الخبز الى القرية بسبب ارتفاع اسعار المازوت والبنزين.
اللافت أن أهل الكور لا يكتفون بحل واحد، فلم يعتمدوا على انفسهم في صناعة الخبز فقط، بل عملوا على حلقة كاملة من زراعة القمح الى حصاده وطحنه لاستعماله في خبزهم.
هذه المبادرة الفردية التي بدأت تنتشر في بعض القرى لا تبتغي التوفير المادي – وفق اللقيس – فالتكلفة لا تفرق كثيراً: «التوفير قليل نسبة للتعب الذي تتكبده النساء، لكن الفارق أننا نأكل كل ما تنتجه أيدينا. القمح من أرضنا والمياه التي نستخدمها نظيفة، ولمة أمهاتنا على رائحة الخبز الشهي تعيد التذكير بماض جميل».
فرن خيري
من جرد البترون إلى بيصور في جبل لبنان، مثال آخر على همة واندفاع اللبنانيين للوقوف الى جانب المحتاجين، فمنذ عامين تقريباً، عمد أهالي بلدة بيصور إلى تجهيز فرن آليّ كامل بتبرعات الخيرين، وتخزين كمية من الطحين والقمح والمازوت.
فرن حديث بمعدات وآليات مستحدثة وموظفين ولا يشبه فرن كور التاريخي الذي يعمل على الحطب.
الفرن بدأ العمل في آب 2021 ويقول صاحبه انه استقدمه عام 1995 من فرنسا، لكنه لم يبدأ العمل به إلا مع بدء الازمة ومع إفقال العديد من الأفران وشح المازوت.
ويقول فراس ملاعب: «انطلق القيّمون إلى تشغيله وتوزيع الخبز مجاناً، تحت شعار لن نجوع، ولن نتوقف عن العمل، ولا أزمة خبز».
أما التوزيع المجاني فيعود الفضل فيه إلى متبرعين يحضرون الى الفرن للتبرع للأسر المحتاجة.
وبسبب أزمة المحروقات وصعوبة التنقل، أعلن القيّمون على الفرن عن خدمة التوصيل المجاني ثلاثة أيام في الأسبوع لمن يحتاج.