لبنان

رثاء مبكر لعهد يعيش آخر أيامه

بدأت السنة الأخيرة إذن، وانطلق معها العد العكسي.
صار للبنانيين فرصة يتيمة للتفاؤل بأنه، وفي مثل هذا اليوم من السنة المقبلة، لن يكون الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا.

لا يد لهم في مرور الزمن. هو الوقت الذي يمضي، وإن بطيئاً بطيئاً، كما جرى في السنوات الخمس الفائتة. وكما ينتظر المحكوم انقضاء فترة حكمه، ينتظرون. ثمة كوارث طبيعية لا يستطيع الواحد حيالها إلا الاختباء، واللجوء إلى السماء طلباً للحماية والنجاة.

ومع أنهم جربوه في القصر من قبل، وترك البلد وراءه خراباً، إلا أنه في حينها أمضى عامين فقط. الآن، وبينما يختم عامه الخامس، يفاجئهم بأنه لم يخسر أبداً موهبته في تفكيك كل ما يقع بين يديه، ثم التنصل من المسؤولية، وإلقاء اللوم على الآخرين.

ومع أن الباقي أقل بكثير من الذي مضى، إلا أن حالة الشؤم العامة التي تلف اللبنانيين تجعلهم مرعوبين، يتوجسون مما قد يحدث في الربع الأخير، الأصعب، من الخاتمة. وسياق الإنهيار العام يشي بأن المصيبة مقبلة، لا أحد يتوقع شكلها، لكنها ستكون أشبه بتلك التي تحل على المدن التوراتية.

هذه مبالغة في التشاؤم، عسى ألا تكون في محلها. لكن ماذا نفعل، وقد حوّل الجنرال شعباً كاملاً من مواطنين إلى متطيرين. شكراً لمروره العطر ثانية على القصر، استطاع ميشال عون دفع اللبنانيين إلى قراءة الكف لفهم السياسة، والضرب في الرمل لتحليل الحاضر، والرقص حول النار لدفع البلاء..

صاروا يتضرعون لله لا لأن يصير الوضع أفضل، وقد ولى زمن المعجزات، لا لأن يبقى الوضع على آخر أزمة هائلة وصل إليها، وقد ولى أيضاً زمن المعجزات، بل لأن تكون الآلام محتملة، في هذا الوقوع المتكرر من بئر إلى أخرى، من يأس إلى آخر.

اليأس ليس قميصاً. لا يأتي بأحجام، صغير ومتوسط وكبير. لكن العهد غيّر مفهوم اليأس نفسه. صار اللبنانيون يُذهلون بمشاعر يأسهم الجديدة، بعدما يتبين أنها في كل مرة أكبر بكثير من التي كانت قبلها. باتوا خبراء في قواميس التعابير التي يحملها المرء إلى طبيبه النفسي: الكآبة، الإحباط، الحزن، القهر. اليأس.. اليأس المضاعف.. اليأس اللانهائي..

ليس وحده مسؤولاً؟ صحيح. هو وأمثاله لا يأتون فرادى، لكنه، وهو العهد القوي، بدا في سنواته الخمس كأنه لا يشاء أن يفعل شيئاً. رفض الامتناع عن هوايته في العرقلة. لم يكن مستعداً لتقديم تنازل واحد يرقى به لأن يكون رئيساً للبلد، وليس لبلدية ينام ويقوم حاسباً أصوات الناخبين فيها. لم يحاول التفكير لمرة خارج صندوق حليفه الذي ذاب فيه واختفى مذ تفاهم معه. لم يجرؤ على معارضته ولو لمرة. استسلم وترك البلد تتفكك أوصاله اجتماعياً واقتصادياً، وجلس في قصره يناكف على أسماء وزراء وعلى حقائب. وكلما كبرت المصيبة، كلما صغُر همّ عون، وغاب في حسابات لا أحد غيره يرى أهميتها، حتى بات كمن يعيش في عالم موازٍ، رئيساً لدولة موازية، مفصولاً تماماً عن الواقع. في غيبوبة.

أقل من سنة على رحيل ميشال عون عن بعبدا. خبر جيد يستدعي رثاء مبكراً. يستدعي بالأحرى استعجال رثاء العهد، لعل السماء تظن أنه انتهى فترفع عن اللبنانيين انتقاماً آخر تعده لهم، جراء عهد لم يجنوه على أنفسهم، بل فرض عليهم، وترك ندوباً لا تمحى في حاضرهم ومستقبلهم وأرواحهم، حتى فقدوا كل أمل غير انتظار مرور هذه الغيمة، ولو حل مكانها فراغ مديد.
وليس لهم، إلا أن يرفعوا وجوههم إلى السماء، والتضرع بكل درجات يأسهم أن ترحم بهم، وأن يؤكدوا عليها أن ليس مطلوباً منها رد القضاء، بل اللطف فيه وفيهم، من الآن وحتى الواحد والثلاثين من تشرين الأول 2022 على أبعد تقدير.

مقالات ذات صلة