بالأرقام: تسعيرة الرغيف من الألف إلى الياء
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
الخبز أب والمياه أم. وها نحن نفتش عن لقمةٍ منه ونقطة منها في قرنٍ طلع من طلع فيه الى المريخ ونزل من نزل فيه الى جهنم. صحيح أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده لكن لا ولن يحيا بلا قمحٍ وطحين ومياه وأوكسيجين وكرامة. فهل كُتب على اللبنانيين أن يعانوا الأمرّين في البحث عن لقمة العيش؟ وهل صحيح أن الرغيف خط أحمر؟ وهل للرغيف في بلادنا قصة بحجم قصة “الرغيف” للكاتب توفيق يوسف عواد؟
وقفت الصبيّة الى جانب “الختيارة” بالقرب من فرنٍ “يعجن” و”يخبز” وراحتا تتنشقان. وقالت الصبيّة للختيارة “ستي يا ستي شو حلوة ريحة الخبز”. فابتسمت لها جدتها وعقّبت: “في هذا العالم يا ستي أشخاص يهربون من الرغيف كي لا يسمنوا وآخرون يركضون وراءه من الجوع”.
يهرول الشعب اللبناني المسكين وراء الرغيف من زمان لكنه لم يكن في يوم مقهوراً ذليلاً مغلوباً كما حاله اليوم. فهل نحن متجهون الى يوم قريب يُصبح رغيف الفقراء “أكلة الأغنياء”. وهل سنصل الى وقتٍ يُصبح فيه عامل الفرن، صانع الرغيف، “يشم وما يدوق”؟
على الورقة والقلم
إتحادات ونقابات ومصالح وروابط تعنى، أو تقول أنها تعنى، بالرغيف في لبنان فهل صحّت معها مقولة “كثرة الطباخين تُفسد الطبخة” أم أننا أمام مجموعة فاسدين يتلذذون بقهر الفقير؟
بين النقابات والإتحادات المعنية نسأل عن نقابة تهتم بعمال الأفران فتشير الأصابع الى واحدة لا تهدأ تحت إسم “نقابة عمال المخابز في بيروت وجبل لبنان” رئيسها شحادة المصري. النقيب المصري سماه نقابيو إتحادات ونقابات أصحاب الأفران والمخابز “نقيب الأوادم” أما اليوم بعدما طالب بتحديد الأرقام، والإعلان عن الدراسات التي تُحدد على أساسها سعر ربطة الخبز، فقد تخلوا عنه. هل أزعجهم؟ هل يمكن أن يحدد نقيب الأوادم “للفقراء” أولاً وللبنانيين العائمين على خطوط الفقر عموماً لماذا ندفع اليوم 7000 ليرة ثمن ربطة الخبز الأبيض و9000 ليرة ثمن “الربطة السمرا”؟ ولماذا نستيقظ صباحاً بعد صباح على همروجة رفع تسعيرة الربطة؟ وماذا عن كلام أصحاب الأفران بأنهم سيبيعون الخبز بلا أكياس ولا “ربيطات” صغيرة؟
مجلس شورى الدولة ألزم، منذ ثلاثة أشهر، وزارة الإقتصاد بتسليم نقابة عمال الأفران في بيروت وجبل لبنان الدراسة التي تحدد على أساسها تسعيرة الخبز. مرّت الأيام و”التسعيرة” مفقودة. فهل هناك من لا يزال يصرّ على مصّ دماء اللبنانيين حتى الرمق الأخير؟ أرقام أرقام يعرضها النقيب عن آخر دراسات تمكّن من الحصول عليها. نغوص فيها بحثاً عن طريقة تسعير ربطة الخبز فنتأكد أن “الكارتلات” دائماً رابحة والمواطن دائماً خاسر. نقرأ في عناصر الكلفة التي يتحدد على أساسها سعر الخبز فنجد: الطحين، الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، السكر، الخميرة، الملح، المازوت، أكياس النايلون، الزيت، كلفة المياه وربطات أكياس الخبز. يزاد الى كل ذلك: كلفة اليد العاملة، كلفة موظف الصيانة والتنظيف، إقامات العمال، بطاقات صحيّة، إيجار الفرن، الكهرباء، إيجار سكن العمال، مواد التنظيف، بوليصة تأمين للفرن، إستهلاك خط الإنتاج. كما ان هناك سنوياً أكلاف إضافية يأخذونها حُددت يوم كان الدولار 1500 ليرة بمبلغ 20 مليون ليرة لبنانية. يعني ان كل شيء محسوب بالقلم والورقة. وهذا ربما حق تلك الأفران. فهي تعمل لتربح. لكن ما يحدث بحسب النقيب أن الحقّ “أحادي” بمعنى أن أصحاب الأفران يأخذون كامل حقوقهم ولا يقبلون التنازل عن شيء، مقابل لا شيء للعمال، ولا رأفة بالمواطن الزبون.
الطابور قد يعود في أيّ لحظة
فلندخل أكثر في الأرقام: 212 فرناً مسجلاً في مؤسسة الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. ويوم أعلنت وزارة الإقتصاد دعم السكر والخميرة والزيت إرتفع عدد الأفران المسجلة الى 275 فرناً. هناك أفران سُجلت لتستفيد. وهناك، بحسب نقيب عمال الافران في بيروت وجبل لبنان، خمسة أفران تحتكر أكثر من ستين في المئة من تجارة الرغيف في لبنان هي: “وودن بيكري”، “مولان دور”، “شمسين”، “السلطان” و”بان دور”. ولعلّ “أفران شمسين” وحدها تحجز لنفسِها 11 في المئة من قدرة سوق الرغيف في لبنان، فلديها 160 فرعاً، و56 خطاً، ويُقصد بالخط الحدود التي تسير عبرها ربطات خبز “شمسين”.
يلفت النقيب الى “أن الخبز الأسمر كذبة كبيرة. ويباع بزنة تقل عن 300 غرام، فليس في لبنان، أقله حتى اللحظة، طحين أسمر. والخبز اللبناني نراه “يفتفت” أحياناً، خصوصاً في الأزمات، والسبب أن الطلب عليه يزيد وتكثر طوابير المذلة فيعمد أصحاب الأفران الى تسريع سير “الجنزير” الذي ينقل الأرغفة في الفرن وبدل أن تتم صناعة كيس الطحين في 18 دقيقة يُصنع في 14 دقيقة. هناك من يعملون أيضاً على إنقاص كمية السكر في العجين أو تمرير الطحين الرديء في الأزمات. اليوم، سعر ربطة الخبز الأبيض 7000 ليرة. يعني إذا كانت الأسرة من ستة أفراد فقد يحتاجون الى ربطتين في اليوم. يعني 14 ألفاً. يعني 420 ألفاً لخبز “حاف” في الشهر. وكيس الطحين (مئة كيلو) بحسب زعم أصحاب الأفران يؤدي الى إنتاج 120 ربطة خبز، بينما بحسب ما نعرف نحن، والكلام الى شحادة المصري، فينتج 150 ربطة خبز. وطن السكر الواحد يكفي 285 عجنة أي يُكثر أصحاب الأفران من التأفف كلما ارتفع سعر السكر وهم لا يحتاجون مع كيس الطحين، مئة كيلو، إلا ثلاثة كيلوغرامات من السكر او ثلاثة كيلوغرامات ونصف. أما لجهة المازوت فكل 15 ليتراً ينتج 150 ربطة خبز.
الزيت دُعم لمصلحة اصحاب الأفران علماً أنه لا يُدرج في صناعة الخبز. من ناحية اخرى، لجأ النقيب المصري الى الضمان الإجتماعي ليعرف عدد العمال الأجانب الذين يعملون في أفران لبنان، والذي يتذرع أصحاب الأفران باستخدامهم وتكبد إقامات العمل والسكن لهم، لزيادة تسعيرة الربطة، فاكتشف وفق إحصاءات 2017 و2018 و2019 أن عمال الأفران المسجلين هم 300 فقط. هناك 300 إجازة فقط لعمال الأفران الأجانب في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. وهذا معناه أن اليد العاملة لبنانية أو غير مسجلة. العمالة الأجنبية تلك لا تتعدى 10 في المئة من العاملين في أفران لبنان.
نعود الى آخر تسعيرة. السبعة آلاف ليرة للربطة الواحدة بوزن 850 غراماً. وسعرها حدد في داخل الفرن 6500 ليرة، يأخذها الموزع منه بسعر 5400 ليرة، وتباع الى الزبون بسبعة آلاف. وهذا معناه أن لصاحب الفرن ربحاً إضافياً على ربحه يناهز 1100 ليرة إذا اشتراها الزبون مباشرة منه. وهو ما يناهز 15 في المئة من سعر الربطة. صاحب الفرن يربح على الطالع وعلى النازل ويطالب بحقوقه اولاً بأول أما العامل الذي يتصبب عرقه غزيراً فله “الله”.
نقابات بلا فعالية
هناك نقابات عدة لعمال الأفران في لبنان لكنها ليست، بمعظمها فعالة. هناك، بحسب المصري، نقابة عمال الأفران في البقاع وهي مجرد إسم بلا فعالية. وهناك نقابة في طرابلس وتتابع مشاكل عمالها نقابة بيروت وجبل لبنان. يعني هي ايضاً بلا فعالية. وهناك نقابة صيدا التي توفي رئيسها العام الماضي ولم تجر بعد انتخابات جديدة. عمال الأفران إذاً، كما زبائنها، يبدون الأكثر ضعفاً في الصورة العامة.
ثمة خلل كبير في القطاع الذي يمسّ المواطن الأكثر فقراً في البلاد. والسؤال هو التالي: كيف يوزع الطحين المدعوم على الأفران- الكارتلات؟ يجيب المصري “يُحدد عدد عمال الفرن الواحد بأربعة عشر عاملاً، بينهم 7 عمال أجانب، ومعلم عجين واحد، و لبناني واحد للصيانة، وسائق لبناني واحد، وبعاملين على المبيعات، وبموظف محاسب وإداري ومشتريات واحد وعامل نظافة أجنبي واحد هو في الغالب من التابعية البنغلاديشية. وأجور هؤلاء تدخل في احتساب تسعيرة ربطة الخبز. يضاف الى ذلك اجرة سكن عمال الأجانب وتحدد بمبلغ 6000 دولار سنوياً (1500 ليرة للدولار الواحد) وإيجار الفرن السنوي والتأمين ضد الحريق وحوادث العمل واستهلاك خط إنتاج مع مولد كهرباء وكهرباء للصناعة والإنارة. وهذا طبعاً خطأ كبير كون هناك أفران كبيرة جداً، أشبه بمؤسسات ضخمة، تحسب الكهرباء التي تستخدمها كاملة على نفقة الزبون!
رغيف الفقراء
لا أحد يعرف كم يأخذ كل فرن حصة من وزارة الإقتصاد. نقابة عمال الأفران في بيروت وجبل لبنان شاركت في البداية في اجتماعات وزارة الإقتصاد (أيام راوول نعمة) وأصحاب الأفران ومصلحة حماية المستهلك في سبيل تحديد كل تلك النقاط لكن ما حصل أن أصحاب الأفران رفضوا ذلك فاستبعدت نقابة عمال الافران ومصلحة حماية المستهلك. لا يريدون أن يكشفوا لا بالأرقام ولا بالوقائع ما يفعلون. وهم، على الرغم من كل ذلك، يهددون يومياً برفع تسعيرة ربطة الخبز من جديد. حتى الرسم البلدي وفاتورة التلفون ورسم الأملاك المبنية لأصحاب الأفران تحسب في تسعيرة ربطة الخبز في لبنان. ويخرج من يتحدث منها عن عدم قدرة تلك الأفران على تكبد كلفة الربطة التي يُربط بها كيس الخبز!
لا أحد يعرف كم تبلغ ارباح أصحاب الأفران من الكعك والحلويات العربية التي يستخدمون في صناعتها الطحين المدعوم غالباً. لا أحد يمكنه تحديد ذلك لأن لا أحد يعرف على أي أساس يعطى لكل فرن حصته من الطحين المدعوم. والمعنيون المباشرون يرفضون إيضاح ذلك.
وصلنا الى الحضيض. هناك لبنانيون يتفرجون على منقوشة الزعتر من بعيد. والمنقوشة بالجبنة وصل سعرها في بعض الأفران الى 25 ألفاً. والكعكة، كعكة الفقير، باتت بعشرة آلاف ليرة. وبعض العائلات تحسب حساب لقمة الخبز التي يتناولها أطفالها. كل ذلك وأصحاب الأفران يمعنون في ذلّ المواطن في حين أن عمالهم ما زالوا يتقاضون 675 ألف ليرة أجرة شهرية.
يتذكر نقيب عمال الأفران في بيروت وجبل لبنان ما حصل في أحد اللقاءات في الأردن حين سأل أحد النقباء في مصر الوفد اللبناني: نحن لدينا في مصر إتحادان أحدهما لمصلحة السكك الحديدية ويضم 183 ألف منتسب، فكم إتحاد نقابي لديكم في لبنان؟ فأجابه شحادة المصري في كلمته: “نحن لدينا 56 إتحاداً و643 نقابة والآن، وأنا أتكلم، قد يكون العدد زاد، وعدد المنتسبين من العمال لا يزيد عن 4 في المئة من عديد العمال”.
النقابات العمالية الوهمية في لبنان على “قفا مين يشيل” وهنا علة العلل. وما زال هناك من يُحدثنا عن الإتحاد العمالي العام ورغيف الفقير.