هذا المشهد لم يحرّك ضمائر المسؤولين!
بعيدًا من الهموم السياسية وحكاية “إبريق زيت الحكومة” نقف أمام همّ آخر يُضاف إلى مسلسل معاناتنا الطويلة. هذا الهمّ هو من نوع آخر. يدخل إلى كل بيت ليسرق منه الفرح والأمل.
في كل يوم، بل في كل ساعة، نشهد حركة غريبة في مطار بيروت الدولي. هذه الحركة ليست لسياح يأتون إلى لبنان، وقد إنتهى فصل الصيف، بل هي حركة تدمي القلب. شباب وصبايا بالآلاف يغادرون بلدهم مكرهين ومجبورين، إمّا لتكملة تحصيلهم العلمي في الخارج بعدما أصبح مستوى التعليم في الداخل في حال يُرثى لها،وإمّا سعيًا وراء عمل حتى ولو كان الراتب أقلّ بكثير مما هو متوقّع، خصوصًا أن الذين يريدون الإستفادة من المهارات اللبنانية “يقرّشون” الدولار على أساس سعر صرفه قياسًا إلى الليرة اللبنانية، فيقولون مثلاً لطالب الوظيفة إنهم سيدفعون له ألف دولار، أي عشرين مليون ليرة لبنانية. وهو مبلغ “حرزان” في نظر الذين “يتشاطرون” على الساعين وراء رزقهم … “وما في اليد حيلة”.
أمّا الفئة الثالثة من هؤلاء المغادرين قسرًا فهي تضم بعض العائلات، التي تمكّنت من الحصول على سمات هجرة، سواء إلى استراليا أو كندا أو السويد، ومن بينهم فئات عمرية شابة.
هذا المشهد الذي يتكرّر يوميًا، وهو إلى تزايد مضطرد، لم يحرّك ضمائر تلك الطبقة السياسية التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه. فشباب لبنان يائسون وبائسون، بعدما أصبح الغد في بلدهم مجهولًا، وبعدما أُقفلت في وجوههم أبواب المستقبل، وأصبح طموحهم محصورًا في كيفية تأمين “تنكة” بنزين”، وفي التفتيش “بالسراج والفتيلة” عن حبّة دواء، فيما أطنان من البنزين والمازوت مخبأة في خزانات المحتكرين والتجار النهمين، والآف من صناديق الأدوية مكدّسة في المستودعات التي تعود إلى مَن فقد وباع ضميره، ويسعى إلى مضاعفة أرباحه على “ظهر” الفقراء والمحتاجين ووجعهم وقهرهم. فإذا إستمرّت الأوضاع على حالها الإهترائية كما هي الآن فإن لبنان سيفرغ من طاقاته الشبابية، وستُترك الساحة لمن لا حول له ولا قوّة، ولتجّار الفساد على إختلاف أنواعهم، وفي طليعتهم تجّار السياسة، وقد حوّل قسم منهم لبنان من جنّة إلى ما هو أبشع من “جهنمّ”، فباتت الحياة فيه شبه مستحيلة، حيث تعطّلت معها لغة الكلام المباح.
وعلى رغم أن هذا المشهد المبكي لم يعنِ كثيرًا لكثيرين من أهل السياسة فإن كثيرين لا يزالون يعتبرون أن لا قيمة للبنان إذا فُرّغ من شبابه، خصوصًا أن بعض الإحصائيات تتوقع في حال إستكمال مسلسل التفريغ الشبابي أن يصبح لبنان من بين الدول الأكثر “ختيرة”، بمعنى أن نسبة كبار السن فيه ستفوق بكثير نسبة من هم دون سن الثلاثين، مع العلم أن الأرقام المنشورة عن نسبة المقترعين الجدد، أي الذين تخطّوا سن الثامنة عشرة منذ أربع سنوات حتى تاريخ 8 أيار 2022 هي نسبة مقلقة، إذ ثمة تفاوت مخيف في هذه الأرقام بين الطوائف، إذ بلغت هذه النسبة لدى المسلمين 73 في المئة بينما بلغت لدى المسيحيين 27 في المئة، وهذا يشير إلى أن الهجرة لدى الشباب المسيحي هي ثلاثة أضعاف ما هي الحال بالنسبة إلى المسلمين.
هذه الإحصائيات أقلقت بكركي التي رفعت الصوت عاليًا وحذّرت من الإستمرار في سياسة تهجير الشباب اللبناني عمومًا والمسيحي خصوصًا، بعدما بلغ بهم اليأس الخطوط الحمر.
فمن لم يهاجر لألف سبب وسبب يجد نفسه أمام خيار من أثنين: إما الموت البطيء، وإمّا الإنتحار، وقد كثرت حالاته في هذه الأيام. وفي كل هذه الأحوال يخسر لبنان شبابه، ويبقى فيه من لم تحرّك ضميره تلك المشهدية المخيفة.
lebanon24