لبنان سيشهد محطات بالغة الخطورة.. هل يفتح “الترسيم” الطريق الى الحكومة الجديدة؟
ليس من السهل الفصل بين الموعد الذي حُدّد للاستشارات النيابية الملزمة غداة أولى جلسات المفاوضات لترسيم الحدود البحرية، وتطوّع الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة العتيدة. وما يعزّز هذا الإعتقاد او ينفيه، يبقى رهناً بالتثبّت من انّ «طَحشة» الحريري ليست فردية بمقدار ما هي ترجمة لتفاهم إقليمي ودولي، أعطى الضوء الأخضر، لتتزامن عملية الترسيم مع إعفاء ابطالها السياسيين من برنامج العقوبات وعهد حكومي جديد؟
من اليوم تتزاحم الإستحقاقات السياسية والأمنية والحكومية، وما على اللبنانيين سوى الانتقال بعيونهم وقلوبهم من الناقورة اليوم الاربعاء الى بعبدا غداً الخميس، لمتابعة المحطات التي تترجم حجم الملفات المطروحة دفعة واحدة، بعد مرحلة من الجمود غابت عنها المعالجات الخاصة بمجموعة الملفات الساخنة والمعقّدة الحكومية منها كما الاجتماعية والنقدية والأمنية، التي تقضّ مضاجع اللبنانيين بمختلف مستوياتهم ومناطقهم.
فبعد حالات الشلل والملل التي سادت الاوساط السياسية والحزبية، والتي عزّزت الخلل القائم على أكثر من مستوى، انطلقت بداية الأسبوع الجاري ورش العمل حول مجموعة استحقاقات لا تفصل في ما بينها سوى ساعات قليلة وتستمر لأيام عدة فتحت فيها معظم الملفات العالقة. فتزامناً مع انطلاق عملية ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل المطروحة منذ عقدين، اعقبت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان (25 ايار 2000)، تنطلق ورشة تشكيل الحكومة العتيدة المعلّقة في توقيت اعقب مرور 66 يوماً على استقالة حكومة «مواجهة التحدّيات» التي ترأسها الدكتور حسان دياب (10 آب الماضي) و45 يوماً على تكليف السفير مصطفى اديب لتأليف بديلتها (31 آب 2020) و18 يوماً على اعتذاره عن إتمام المهمّة (26 ايلول 2020).
لا يكفي إلقاء الضوء على اهمية ما سيشهده لبنان في الأيام القليلة المقبلة من محطات بالغة الدقة والخطورة، وخصوصاً ان بقي البحث جارياً عن خريطة طريق واضحة لِما يمكن ان تؤول اليه هذه المواجهة المفتوحة مع هذه الإستحقاقات المهمة على شتى الاحتمالات السلبية منها او الإيجابية النادرة. فعلى وَقع ما يمكن تحقيقه في البحر والبر، سيتوقف كثير ممّا يوحي بما سيكون عليه مستقبل اللبنانيين القريب لوقف المنحى الإنحداري الذي تتخذه التطورات الإقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية في اتجاه مزيد من الانزلاقات الخطيرة. وسط اعتقاد كثر أنّها يمكن ان تودي بلبنان الكيان الى التفتت والمجتمع الى الانهيار، وتهدّد وحدة مؤسساته وتُعمّم الفقر والجوع وربما الفوضى الأمنية في المناطق الحساسة التي تشكل نقاط تماس بين المتخاصمين.
وفي الوقت الذي سيتحلّق الوفدان اللبناني والاسرائيلي المكلّفان ترسيم الحدود البحرية في مرحلة اولى اليوم في مقر قيادة القوات الدولية (اليونيفيل) في الناقورة حول الراعي الأميركي مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى دايفيد شينكر ومعه الشاهد الأممي ممثل الأمين العام للامم المتحدة في لبنان يان كوبيتش ومستضيف اللقاء قائد قوات «اليونيفيل» الجنرال ستيفان ديل كول، سيكون اللبنانيون في انتظار ما ستؤول اليه مبادرة الرئيس سعد الحريري الذي «تَطوّع» لتشكيل الحكومة الجديدة. فبقيت عَين على تلك المحطة الجنوبية التاريخية وأخرى على محطة داخلية مفصلية تُنبئ بإمكان إضاءة نور خافت في نهاية النفق الحكومي الاسود ليقرأ اللبنانيون ما ينتظرهم في الأيام المقبلة. فإمّا إشارة واضحة الى بداية الخروج من النفق الى نور الحل، وإمّا المزيد من رفع الحواجز والسدود امام كل المخارج الإقليمية والدولية التي رُسِمت للبنان، لإخراجه من ذيول النكبة التي حلت ببيروت والنفق الاقتصادي والاجتماعي المظلم.
على هذه الأسس، جاء الربط تلقائياً بين كل هذه المحطات، وسط اعتقاد المتفائلين انها لم تأت برمجتها بالمصادفة، وانّ هناك من خَطّط لها من ضمن خريطة طريق فتحت الأبواب امام مرحلة جديدة يمكن ان تشهد بدايات الإنفراج الأزمات المتعددة الوجوه لعلها تؤدي الى وقف التدهور وبداية خريطة طريق الى الإنقاذ أياً كانت المصاعب التي يمكن ان تواجهها.
وعليه، فإنّ المراجع الديبلوماسية تجزم بأنّ الاعلان عن «اتفاق الاطار» في توقيته وشكله ومضمونه، أطلقَ دينامية جديدة على اكثر من مستوى. فسيف العقوبات المصلت على رؤوس الممانعين وحلفائهم، ترجم الخطوة الأولى، ومن المفترض ان تليها الأخرى. فالوضع في لبنان لم يعد يحتمل، وان «الغنج والدلع» الذي يمارسه البعض قد حان أوان وَقفه. فلا البلد يحتمل مزيداً من ترف الانتظار، ولا الدولة يمكن ان تستمر في تقصيرها لتوفير الحد الأدنى من واجباتها تجاه مواطنيها في مثل الظروف التي تعيشها، ولا المجتمع الدولي قادر على التفرّج على كل ما يجري من مظاهر التفلت الامني والاخلاقي والسياسي الى نهايته الحتمية بتوريد شيء منه الى دولها ومجتمعاتها. فالتزام جميع الأطراف بالمبادرة الفرنسية بشقيها الحكومي والاقتصادي والطرح الأميركي لملف الترسيم، وأيّاً كان التباين قائماً حول بعض التفاصيل فقد فرض آلية جديدة لا بدّ للجميع ان يلتزموا بها.
وكشفت هذه المراجع ان البَت سريعاً بالخطوة الأولى في شأن الترسيم أرجأت موجة جديدة من العقوبات الأميركية، كانت ستطاول رأسين كبيرين على الأقل، قبل ان يجددوا التزامهم بالمحطتين معاً. فهامش الحركة ضاق أمام الجميع، وما زاد في الطين بلة انّ مصرف لبنان، الذي يقوم بأدوار ومهمات معظم السلطات التشريعية والتنفيذية وعدد من الوزارات والمؤسسات الرسمية الفاشلة والمشلولة، فَقدَ «المؤونة المادية» التي أمّدتهم بكل الوسائل التي عززت سيطرتهم على البلاد والعباد. وان اسابيع قليلة تفصل بين ما هو قائم اليوم من جنون الأسعار وفقدان السلع الأساسية، الى درجة يمكن ان تستدرج العنف للحصول عليها او وضع اليد عليها. ولذلك كله، تراهم يصطفون في سباق الى نيل الرضى الأميركي، سواء من خلال الترحيب المفاجئ بعملية الترسيم أو لجهة تركيبة الوفد اللبناني، بعدما انتقلت المفاوضات من مرجع الى آخر وكأنّها امتياز شخصي، وقد تنازل عنه أحدهم لآخر وحان أوان قطافه لكسب الود الأميركي وتجنب سيف العقوبات الذي كان سيطاول رؤوساً منهم.
وختاماً، تقول المراجع عينها: «ان رغب أحدهم بعدم أخذ هذا المعطى المتميز بما يستحق من جدّية، فما عليه إلّا الوقوف على الحقائق التي تسببت بتعثر الاعلان عن تشكيل الوفد اللبناني المفاوض رسمياً، عدا عن الاتهامات المتبادلة بالإنبطاح امام موفد الإدارة الأميركية ديفيد شينكر الذي وصل الى بيروت في الساعات الماضية بهدف إطلاق مسيرة الترسيم، ولتحديد خط بحري قد يكون فاصلاً بين مرحلتين اقتصاديتين ونفطيتين، في انتظار ترسيم الخط السياسي الفاصل بين حكومتين تنقل الثانية البلاد من محطة الى اخرى في خطوة اولى على طريق الالف ميل.
المصدر: الجمهورية