تحويل معاناة الآخر الى مادة للسخرية… فقدان تام للشعور بالانسانية
يظهر الكثيرون تعاطفا في الأزمات والكوارث والمواقف المؤثرة، لكن البعض يواجه تلك المواقف بالسخرية أو الضحك، لا يقصد بردود الأفعال تلك التقليل من المأساة الإنسانية التي يعيشها الضحايا، لأنها ببساطة قد لا يرونها ولا يعبؤون بأسبابها، وهو السلوك الذي يمكن أن يطلق عليه “افتقار التعاطف” أو “التعاطف الانتقائي”.
رغم أن التعاطف جزء أساسي في تكويننا وبناء الروابط الاجتماعية، فإنه قد يتضاءل في بعض المواقف لدرجة تجعل الشخص لا يرى معاناة الآخرين، ويحولها إلى مادة للسخرية والتسلية، لذلك يجادل بعض علماء النفس بضرورة عدم الاعتماد على التعاطف في إطلاق أحكامنا الأخلاقية باعتباره شعورا مضللا وانفعاليا يكبر ويتضاءل دون معيار أخلاقي ثابت.
لماذا قد يقل التعاطف مع الآخرين؟
غالبا ما يكون التعاطف استجابة للمعاناة الجماعية، لكنه اختيار أيضا، فقد نرى بعض الجماعات والأشخاص الآخرين يعانون من أمر ما ونختار عدم التعاطف معهم، ويوجد عامل مهم لذلك لأن وجود شخص واحد يعاني يسهل فكرة إمكانية مساعدته في حل محنته، عكس وجود مجموعة من الناس الذي يصعب مساعدتهم جميعا وتخليصهم من محنتهم.
أيضا يختلف هذا حسب المعتقدات الأخلاقية لكل شخص، فالأشخاص المهيئون للتفكير في القيم الفردية يظهرون سلوكيات أقل تعاطفا مع المعاناة الجماعية، على عكس الأشخاص المهيئين للتفكير في القيم الجماعية، كما شرح موقع “كونفرزيشن” (The Conversation).
في هذا الجانب أيضا يعتقد بعض علماء النفس أن السبب في ذلك هو أن التعاطف ينشأ أساسا لصالح بقاء المجموعة، مما يعني أن من هو خارج هذه المجموعة يُمكن أن أرفضه وأرفض التعاطف مع قضيته، طالما أن أزمته بعيدة عني وعن المجموعة التي أنتمي لها.
ربما لا نستطيع تخيل حجم المأساة
قد تكون المشكلة الرئيسية في قلة التعاطف أن الشخص لا يتصور حجم المأساة ولا يتخيل مدى صعوبتها نظرا لبعده عنها، كما أن تصوراتنا عن الآخرين غالبا ما تكون أقل وضوحا من تصوراتنا عن أنفسنا، وتكون تصوراتنا عن المآسي التي لا نعيشها غير واضحة تماما، ويمكن أن يؤدي هذا التباين إلى ترسيخ صور نمطية عن الآخرين ومآسيهم، أو يُمكن أن ننظر إلى مشاكلنا التي نجحنا في تخطيها ونعتقد أن الأمر بالسهولة نفسها بالنسبة للآخرين ومشاكلهم.
هل المشكلة متعلقة بالطفولة؟
من المحتمل أيضا أن يكون الأشخاص الذين يفتقرون إلى التعاطف قد نشؤوا في أسر كانت تتجنب الاتصال بمشاعرهم، أو في بيئات انتقدت الآخرين لتعبيرهم عن مشاعرهم، لذلك قد تكون المشكلة أنهم لا يستطيعون ربط مشاعر الآخرين أو الشعور بها، أو لأنهم لا يعطون مساحة كافية للتفكير في المشاعر وتطويرها، كما أن تعاطفهم مع مشاعر الآخرين قد يعني أن عليهم التعامل مع مشاعرهم الداخلية، لذلك اختاروا بوعي تدريب أدمغتهم على تجنب تفكيك مشاعرهم ومشاعر الآخرين.
هل التعاطف بوصلة أخلاقية؟
كذلك، التعاطف شعور انفعالي يبدأ كبيرا ثم يقل تدريجيا مع خفوت حدة الموقف أو اعتياده، لذلك يعتقد بعض علماء النفس أنه غير صالح لتكوين رأي أخلاقي، وأن “الرأفة العقلانية” قد تكون مجدية أكثر فيما يتعلق بدعم الآخرين معنويا، لأن التعاطف يكون مبنيا على تحليل واع وعاقل لحجم المشكلة وليس مجرد مشاعر.
من أبرز المجادلين حول هذا الرأي عالم النفس الأميركي ذي الأصل الكندي بول بلوم، إذ ألّف كتابا بعنوان “ضد التعاطف.. قضية التعاطف العقلاني”، شرح فيه أسباب اعتقاده أن التعاطف سيف ذو حدين، وقد يؤدي إلى نتائج سيئة تماما كما يؤدي إلى نتائج إيجابية تجعلنا أكثر رعاية وتسامحا وإيثارا، ذلك أنه يعتقد أن التعاطف غير مضبوط على تردد واحد، وغير معدود أو محدود، وضيق الأفق، والأهم بالنسبة له أنه منحاز.
كما كتب بول مقالا بمجلة “نيويوركر” (Newyorker) الأميركية يعد فيه التعاطف تحيزا غير منطقي، لأنه يرى عدم منطقية التعاطف مع 7 مليارات شخص ليشمل تعاطفنا الجميع، خاصة وأن هذا سيؤدي إلى نوع من “الشلل والإرهاق العاطفي” الذي يمنع من تقديم المساعدة الفعلية.
ويرى بلوم أن “ضيق الأفق” يُمكن تطبيقه فقط على من مروا بتجارب مثلنا أو الأشخاص القريبين منا، بينما يراه “متحيزا” لأنه يمكن التعاطف مع المجموعة على حسابات المجموعات الخارجية، كما أنه شعور انفعالي قد ينتج عنه قرارات سريعة وآنية لكنها ليست إستراتيجية، كذلك قد يختار بعض الناس أن يكونوا قاسين وحاسمين في عدم التعاطف، ظنا منهم أن التعاطف سيكون مهددا لهم وقد يضعفهم.
لذلك يعتقد بلوم أن التعاطف لا يمكن اعتباره دليلا أخلاقيا لأنه عبارة عن عاطفة متقلبة وغير عقلانية تروق لتحيزاتنا الضيقة، لذلك تشوش حكمنا الأخلاقي، ويقترح بدلا عنها “الرأفة العقلانية” طريقة للتفكير في القضايا، وذلك من خلال التحليل العقلاني للقضية باعتبارها قضية عادلة دون انفعال أو تعاطف لحظي، مع التفكير في الحلول المؤسساتية والحلول طويلة المدى التي تديم المساعدة، لكنه يرى أيضا أن “قمع التعاطف” يمكن أن يخلق شخصا مريضا نفسيا وقاسيا، وربما تقلل من اهتمامه بالقيم والأخلاق.
(الجزيرة)