النمط الاستهلاكي حولنا الى آلات… اليكم التفاصيل
بينما يطمح شخص من الطبقة الفقيرة والوسطى الدنيا من العمل إلى توفير حد الكفاف أو الحد الأدنى اللازم لمعيشة تتوفر فيها الاحتياجات الأساسية؛ يبحث بعض أبناء الطبقة الوسطى الأعلى على أمور أخرى من عملهم بجانب توفير أساسيات الحياة.
يطمح بعض من يبدأ موظفا بخبرة وراتب متواضعين إلى الترقي وظيفيا في مراتب إدارية أعلى برواتب أكبر، وذلك بعدما يجمع مهارات مهنية وإدارية قد يحصل على بعضها من خلال تلقي دورات تدريبية متخصصة، وتطوير لغات أجنبية تلاصق العربية في الحديث، إذ لم تعد تكفي الشهادات الجامعية والمهارات الوظيفية الأساسية لتحقيق ذلك.
وبالإضافة إلى المنصب الإداري الأعلى الذي يطمح إليه الشخص، فإن هذا يأتي معه مزايا اجتماعية مثل الحصول على التأمين الطبي، بالإضافة إلى نمط استهلاكي آخر يركز على ارتداء أحدث صيحات الملابس، والساعات، واستخدام أحدث الهواتف، وشراء ماركات معينة من السيارات، ومصادقة أشخاص من طبقات اجتماعية ومناصب أعلى، والحصول على وسائل ترفيه مناسبة للطبقة الاجتماعية الجديدة، مثل نمط طعام معين، أو الاشتراك في نوادٍ رياضية، أو اختيار أماكن الترفيه والرحلات.
بشكل أو بآخر يصبح الطموح متشابها ونمط الحياة مكررا ومنسوخا لعدد كبير من أصحاب الوظائف في هذه الطبقة، والمشكلة أنه قد لا يقف عند مجرد التطلع إلى الوصول إلى نمط الحياة هذا والرضا بتحقيقه، إذ يوجد نوع من التطلع المتزايد لمزيد من الارتقاء الطبقي، ويغذيه في ذلك النمط الاستهلاكي.
كيف غير النمط الاستهلاكي تطلعاتنا؟
إظهار الثروة والانتماء لطبقة اجتماعية أعلى من خلال الملابس أصبح أمرا معتادا في أوروبا في أواخر القرن الـ13، وزاد شيوعه لاحقا، إذ أصبح وسيلة لتقييم الانتماء الطبقي للشخص بسهولة، مما جعله سلاحا في حرب “الطبقية” خصوصا مع كونه أسهل وسيلة للتعبير عن الاختلاف الاجتماعي، وأصبحت الملابس علامة تشير إلى الوضع الاقتصادي والطبقة الاجتماعية، بل والثقافة والمعايير الأخلاقية التي يحملها، لتصبح أداة قوية للتفاوض وبناء العلاقات الاجتماعية، وكذلك لفرض الاختلافات الطبقية.
حتى إن الخبير الاجتماعي الأميركي ثورستين فيبلين اعتبر أن الدافع وراء الحراك الاجتماعي هو المحرك الرئيسي للموضة، وقال في كتابه “نظرية الطبقة الترفيهية” (The Theory of the Leisure Class) إن الطبقة الثرية مارست ريادة الموضة من خلال استهلاك الملابس لإظهار ثرائهم.
فيما تبنى عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني جورج سيميل نظرية “اقتصاديات النزول للأسفل” في حديثه عن نشأة الموضة وصناعة الأزياء، وجادل بمقالته التي تعود للعام 1904 أن أفراد الطبقة العليا في المجتمع يقومون بتغييرات في الموضة، بينما تقوم الطبقات الوسطى والدنيا بتقليدها ومحاكاتها لتعبر بذلك عن تطلعاتها للترقي اجتماعيا من خلال اتباع الأنماط التي وضعتها الطبقات العليا، وبمجرد تحقيقهم ذلك تقوم الطبقات العليا بتغير أسلوبها لتعزيز الاختلاف عن باقي الهرم الاجتماعي.
وبينما كانت الملابس وسيلة لإظهار التسلسل الهرمي بالعصور الوسطى، وذلك من خلال اختيار نوع الثوب وطوله وألوانه وزخرفاته وعدد طبقاته، ابتكرت أشياء أخرى لإظهار التسلسل الهرمي في القرن الـ21، فظهرت ماركة الملابس، ونمط الحياة، وممارسات الاستهلاك، وطريقة قضاء وقت الفراغ، والمستوى التعليمي، والتفاعل الاجتماعي، والنمط الغذائي، بالإضافة إلى الكماليات مثل النظارات والساعات، ومع التطور التكنولوجي شملت سبل التمايز استخدام ماركات معينة للهواتف والساعات الذكية وأجهزة اللاب توب وغيرها من الأجهزة الذكية، والممتلكات الكمالية الأخرى.
الشبكات الاجتماعية
كما ساهم التطور التكنولوجي وتوغل الشبكات الاجتماعية في عكس الطبقية الاجتماعية بالحياة اليومية، بل وتضخيمها كما قالت دانا بويد عالمة الإثنوغرافيا (علم وصف الأعراق البشرية) في تقرير سابق لشبكة “سي إن إن” (CNN) الأميركية، ناقش تفضيلات استخدام الأشخاص من الطبقات الاجتماعية المختلفة لاستخدام الشبكات الاجتماعية والتطبيقات المختلفة.
لكن الجانب الآخر للشبكات الاجتماعية والانفتاح على رؤية نمط حياة الطبقات الاجتماعية الأعلى عن قرب وبشكل تفصيلي، رسخ لأفكار ثابتة عنهم، التي تعني تحصيل وظيفة معينة، يرتدي أصحابها الملابس الرسمية بشكل معين، ويستطيعون من رواتبهم شراء ماركات ملابس معينة وأجهزة إلكترونية وسيارة، فيما يقضون العطلات في أماكن بعينها، وهو ما أصبح رغبة عند الطبقات الأدنى لتحيا بالنمط نفسه، حتى لو كانت حاجتها للمال لأوليات وأساسيات غير صورية هي الأهم.
التعليم لا يكفي الأجيال الحالية
لا يخفى على الجميع الفجوة الكبيرة بين التعليم وسوق العمل، وقد أشارت دراسة للبنك الدولي في العام 2018 إلى حصول الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مستويات تعليمية تفوق تعليم والديهم، وبنسبة أعلى من أي منطقة أخرى في العالم، لكن في الوقت نفسه تسجل المنطقة أعلى معدلات بطالة بين الشباب في العالم، وبنسبة تتجاوز الـ40% لحملة الشهادات التعليمية.
جزء من هذه البطالة يعود إلى عدم توافق المهارات التعليمية مع تحديات سوق العمل المطلوبة، التي تحتاج إلى لغات ومهارات إضافية لا يوفرها التعليم الحكومي، بل الدورات التدريبية أو التعليم بالمدارس والجامعات الخاصة.
في دراسة البنك الدولي سجل شباب المنطقة أيضا أقل مرتبة عالمية في القدرة على تحقيق ارتفاع الدخل بين الأجيال، رغم تسجيلهم المرتبة الأعلى في القدرة على التطور التعليمي بين الأجيال.
ربما كان هذا دافعا لاتجاه بعض الأهالي في الاستثمار في تعليم الأبناء في المدارس والجامعات الخاصة، التي توفر فرصة للتميز بلغة إضافية أو معرفة وثقافة مختلفة عما يوفره التعليم العام، خصوصا أنها تمنحهم فرصة بالتواصل والاختلاط بأبناء الطبقات الاجتماعية الأعلى، ويتحدثون مثلهم، ويتأهلون لسوق العمل الذي يقبلهم، مما يوفر فرصة لتحسين دخل الأسرة مستقبلا من ناحية، والترقي اجتماعيا بتقليد أحد جوانب حياة الطبقات الاجتماعية الأعلى من ناحية أخرى، وهو ما قد يدفع بعض الأهالي إلى هذا الاستثمار الذي يرونه مربحا حتى وإن لم يكن رأس المال الذي يضعونه فيه مناسبا لمستواهم المادي الحقيقي.
(الجزيرة)