القهوة… تقليد وتراث وأسلوب حياة في العراق
تحظى القهوة العربية بمكانة مرموقة في المجتمعات العربية، وتبجّلها القيم العشائرية بطقوس من الاحترام، وذلك دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) إلى إدراجها ضمن قائمة التراث غير المادي عام 2015.
ورغم تعدد الروايات حول كيفية اكتشافها، يبقى ثابتا أنها بدأت من اليمن وعشقتها المجتمعات البدوية ومنها مجتمع العراق.
القهوة في العراق
يرجع الباحث في التاريخ عماد الجبوري معرفة العراقيين بالقهوة إلى بدايات القرن الـ13 الميلادي معززًا رأيه بما نظمه ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بين عامي 1220-1224 الذي قال فيه “وما قهوة صهباء كالمسك ريحها .. تُعَلَّى على الناجود طورا وتُقدح”.
ويوضح الجبوري أن السوريين أخذوا القهوة من قوافل الحج المارّة عبر البادية العراقية، وأولئك الحجيج عرفوها بدورهم من شبه الجزيرة العربية بنوعها الأبيض المعروف بـ”القهوة الشقراء” ثم تعلموا طبخها، وتحولت إلى أعراف عشائرية بعد استقرارهم في الأرياف.
القهوة في العُرف
تعدّ القهوة من أبرز دلائل كرم العشائر قديمًا وحديثا، حسب شيخ قبيلة السادة المواشط عبد الهادي الملا خليل، لافتا إلى أن تقديمها في مجالس العزاء أضفى عليها طابع الحزن.
وعن الطرق والأعراف المتبعة في تقديم القهوة، بيّن الملا خليل أن ديوان العشيرة يعمد إلى تحضيرها منذ الصباح الباكر.
وأضاف أن من حق الضيف أن يمتنع عن الحديث في المجلس حتى تقدم له القهوة، مرجعا هذه السلوكات إلى الأعراف القبلية المتوارثة بين العشائر العراقية عبر التاريخ، مشيرا إلى اختلاف هذه الأعراف بحسب تأثيرات المنطقة والعشيرة.
وتتوارث بعض العائلات مهنة تقديم القهوة، مثل عائلة قصي عبد الكريم وهو قهوجي من سوق الشعارين في مدينة الموصل (شمالي العراق) ورث مهنته من أبيه عن جده الملا محمد الذي أسس واحدا من أقدم محلات القهوة في الموصل حاليا.
ويقول القهوجي قصي عبد الكريم للجزيرة نت إن من عادات تقديم القهوة المبادرة بتقديم الماء إلى الضيف ثم القهوة، فإن رفض الضيف الماء فذلك يشير إلى رغبته بتناول الطعام، ومن ثم يقدّم له الطعام أولا ثم القهوة، كما يهز الضيف فنجان القهوة بعد تناوله دلالة على الاكتفاء.
ويرجع عبد الكريم خطوة إلى الخلف عند انتهاء محتوى الدلّة “إبريق القهوة” أثناء التقديم، ويقول “يا ضيف حقك بالفاير مو بالبايت”، وتعني أن نصيبك من القهوة الجديدة وليس القديمة، ويجيب الضيف “النقص مو بيك النقص بالدلة”، ويقصد بها نفي اللوم عن القهوجي.
وبدوره، يوضح القهوجي سيف الميالي من بغداد أن القهوة تخطت مجالس العشائر والعزاء إلى المحافل الدولية وندوات الشعر، ويصف أصحاب الذائقة وكبار السن بالرواد الدائمين لهذه المجالس.
وفي ظل الظروف المادية الصعبة في البلد، يلجأ بعض الشباب إلى هذه المهنة هربا من البطالة، مثل الميالي وهو خريج جامعي.
القهوة في التراث
تطرّق الشعر الشعبي إلى القهوة العربية في قصائده، مثل قصيدة مظفر النواب “مرينا بيكم حمد” التي غناها الفنان ياس خضر، ويقول في مطلعها “مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل وسمعنا دك القهوة وشمينا ريحة هيل”.
وفي الغزل تقول الأبوذية (نوع من الفن الشعري العراقي) “صرت قهوة لحبيبي بوسط فنجان”، ويقال أيضًا عن الفنجان والدلة وتشبيه ارتباطهما بحنان الأم “إذا ماتت الدلة تيتم الفنجان”.
وشاع ذكر القهوة العربية في الأمثال الشعبية مثل “صدك بطران من يتمركص الفنجان، ما يدري الجمر شسوى بالدلة”، وتعني أن الفنجان يجهل معاناة الدلة، إشارة إلى تجنب سرعة الظن، وغيرها كثير من القصائد والأشعار.
القهوة والصحة
وفي تناول القهوة إيجابيات مثل تعزيز النشاط، وتقليل مخاطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني والسمنة، كما يحسن شربها ضغط الدم ويخفض مستويات الكوليسترول، حسب الدكتور أسامة إسماعيل بشرط التناول المعقول لها وبمعدل استهلاك للشخص بين 4 و5 فناجين متوسطة الحجم في اليوم.
وأشار إسماعيل إلى أن القهوة المرّة آمنة للمرأة الحامل بمقدار فنجان واحد يوميا وبكمية أقل للأطفال باعتبارها مصدرا غنيا بالفيتامينات والمعادن، ويصرّ على أن تناولها من دون سكر يعزز الاستفادة من عناصرها.
وفي حديثه للجزيرة نت، حذر الطبيب من المبالغة في تناول القهوة، مشيرا إلى أنها قد تسبب الأرق والعصبية فضلا عن إحداث اضطرابات في المعدة وزيادة معدل ضربات القلب والتنفس.
كما دعا إلى عدم تناول القهوة مع بعض الأدوية، خاصة المضادات الحيوية والأدوية المميعة للدم.
ونصح إسماعيل بتجنب استهلاك القهوة بين مرضى النزف والقلب والسكري غير المسيطر عليه، والمصابين بهشاشة العظام.
(الجزيرة)