بعد عام على الاتفاق الأوّلي.. عرقلةٌ للمسار مع “الصّندوق”
جاء في “الراي” الكويتية:
على إيقاعٍ ملتبس، مضتْ السنةُ الأولى على إبرام الاتفاق الأولي بين فريقيْ العمل المكلّفيْن من الحكومة اللبنانية وادارة صندوق النقد الدولي.
وما من إشارة، ولو رمزية، تُقْنِعُ الأوساطَ الاقتصادية والمالية والخبراء في الداخل والخارج، بأن لبنان عازم جدياً في المدى القريب، على قطْع المسافة التنفيذية والتشريعية المطلوبة للانتقال الى مرحلة صوغ الاتفاق النهائي المعزَّز ببرنامج تمويلي بقيمة 3 مليارات دولار، مخصصّة لدعم خطةِ إنقاذٍ منشودة.
والحاصل فعلياً، أن ما كُتب في نهار السابع من نيسان 2022 فَقَدَ وهجَه تماماً، ويكاد يتحوّل وثيقةً تثبت بالأدلة الدامغة وبالسلوكيات غير السويّة، قدراتٍ «عجائبيةً» لدى منظومة الحُكْم، ليس على تَعَمُّد كساد الاقتصاد وفق توصيف البنك الدولي وتدمير نموذجه المالي والمصرفي فحسب، بل على احتراف بناء الجدران السميكة والمرتفعة لمنْع «تَسَلُّلِ» أي إصلاحاتٍ هيكلية، بل سدّ منافذ أي محاولاتٍ استدراكية للانهيارات المشهودة.
وفي قراءةٍ تحليلية خصّ بها مسؤول اقتصادي معني «الراي»، فإن الوقائع السياسية المحلية تنحو باتجاهٍ مُغايِرٍ لمقتضيات الموجبات «اللبنانية» الواردة في نص الاتفاق الأولي. وهي تنسف التعهدات الرسمية، على أعلى المستويات «السلطوية» المحلية، بالاستعجال في التزام «المكمّلات» التنفيذية والتشريعية في غضون أشهر قليلة، وضمن مسارٍ زمني يُفْضي الى عرضِ الصياغة الأخيرة للاتفاق وملحقاته على اجتماعاتِ الخريف الماضي لإدارة الصندوق.
وبذلك، لم يكن عابراً بعيد انتهاء الجولة الأحدث لبعثة الصندوق الى بيروت خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، صدور تصريحات وتلميحات محلية، رسمية وشبه رسمية وحزبية، تتوافق على الاصطفاف التَشارُكي في مسارٍ عكْسي يُفْضي إلى قلْب الأولوية المطلقة، وبحيث يصبح التمويلُ – من دون حصره بالصندوق – والاصلاحاتُ في المرتبة الأخيرة ومن دون ضغوطٍ وُصفت بـ «الاستكبارية» وبأنها تَستهدف هوية البلد وتموْضعه على خطوط التماس الاقليمية والدولية.
ووفق المسؤول الاقتصادي، يمكن ومن دون عناء كبير رَصْدُ التناغم السياسي على استبعاد مرارةِ مَطالب إدارة المؤسسة الدولية، مع مراعاة عدم إشهار الرفض أو الصِدام مع فريقها المعني. وفي المؤشرات التي لا تحتاج إلى جُهْدِ تفسيري مُضاف، برز تنويهُ مرجعٍ حكومي بوجود خياراتٍ مٌوازِية على طريق «الإنقاذ» يمكن أن تتحول بديلاً مُجْدياً، وهو ما استُكمل بإشهار شكوك صريحة بأشخاص وبغايات المؤسسات الدولية من قبل مسؤولٍ كبير في جهةٍ داخلية تستحوذ على الوزن الأكبر في تحديد السياسات والاستراتيجيات.
وقبْلهما وبعدهما تستمرّ منهجية المماطلة والتسويف قائمةً ومترجَمةً عملياً بـ «إعدام» الشفافية والمضامين الهيكلية للاصلاحات المطلوبة.
وتُظْهِرُ الوقائع المحدّثة استعصاءَ الاستجابة المنشودة من كل السلطات لغالبية المَطالب الواردة، باعتبار أنها لا تراعي «الخصوصيات» اللبنانية، ما يزخّم المَخاوف المشروعة من «خسارةِ» فرصة عودة لبنان الى منظومة التتبّع والمشاورات لدى صندوق النقد الدولي بموجب المادة الرابعة، ومن انسحابٍ قسْري تفرضه حال «عدم اليقين» جراء الأزمات المتفجّرة، والتي تَوّج تداعياتها الكارثية، الانحدارُ الحاد للناتج المحلي بما يتعدى 60 في المئة من مستواه الأعلى الذي ناهز 54 مليار دولار نهاية العام 2018.
ويعزّز هذه المخاوف، الإفصاحُ الرسمي للبعثة بأن الإسناد الرسمي للصندوق القائم على الاستمرار بآليات المفاوضات لبلوغ المحطة المنشودة، يتوقّف بديهياً على «التزام لبنان ومثابرته في تنفيذ برنامج الإصلاح الشامل والطموح»، فضلاً عن «التزام السلطات بالعمل مع الصندوق والشركاء الدوليين الآخَرين من أجل تنفيذ السياسات الرامية إلى معالجة التحديات الراهنة ووضع الاقتصاد اللبناني على مسار مستدام، بما في ذلك عن طريق برنامج اقتصادي يدعمه الصندوق».
ويمكن بسهولة أيضاً استكشافُ ارتفاع منسوب التوجّس لدى فريق الصندوق المولج بالملف اللبناني. فهم أبلغوا صراحةً مسؤولين وخبراء من القطاع الخاص التقوا بهم أخيراً ضمن مهمة مشاوراتٍ متجددة بموجب المادة الرابعة، أنهم لم يحصلوا على «أجوبة نهائية»من السلطات المعنية بخصوص إعادة جدولة الالتزامات الواردة في الاتفاق الأوّلي والمُهِل الزمنية للإجراءات والتشريعات.
لذا، ورغم الديبلوماسية المعهودة في المخاطبات الدولية، لم يتردّد فريقُ الصندوق في صوغ «الجواب الشافي»، وفي نصّه:
«أصبح لزاماً على الحكومة والبرلمان والبنك المركزي (مصرف لبنان) سوياً اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة للتصدي للضعف المؤسسي والهيكلي طويل الأمد لتحقيق الاستقرار للاقتصاد وتمهيد الطريق أمام تَعافٍ قوي ومستدام».
وفي الخلفية الموجبة، فإنه ورغم فداحة الأوضاع التي تستدعي تحركاً فورياً وحاسماً، فقد ظلّ التقدم المُحْرَز محدوداً نحو تنفيذ حزمة شاملة من الإصلاحات الاقتصادية التي نصَّ عليها الإتفاق على مستوى الموظفين، في الوقت الذي تَراجعت قدراتُ الإدارات العامة بشكلٍ كبير، ولم يَعُدْ بوسع البنوك توفير الائتمان للاقتصاد وباتت الودائع المصرفية غير متاحة غالباً للعملاء.
علماً أن تواجد عدد كببر من اللاجئين فاقَمَ التحديات التي يواجهها لبنان. وتتسبّب هذه الحالة من «اللا فعل» وفق وصْف البعثة الدولية، في الإضرار بشريحة السكان منخفضة الدخْل إلى متوسطة الدخل أكثر من سواها، وتؤدي إلى إضعاف إمكانات لبنان الاقتصادية على المدى الطويل.
أما في التداعيات المحقَّقة، فتُسَجِّلُ مستويات البطالة والهجرة ارتفاعاً حاداً، ويتفاقم الفقرُ بمعدلاتٍ قياسية، وتشهد إمداداتُ الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم العام اضطراباً بالغاً.
كما تتعرض برامج الدعم الاجتماعي الأساسية والاستثمارات العامة للانهيار. وفي سجل الالتباسات «العصية» أيضاً على الاستجابة الرسمية في الظروف الحاضرة، يطلب الصندوق توخي الصرامة في منْع تمويل البنك المركزي للقطاع الحكومي، بينما لا تتوافر واقعياً موارد بديلة لسدّ العجز الكبير في الموازنة العامة.
كما يوصي بأن يكون التدخل في سوق الصرف محدوداً للغاية ويقتصر فقط على أغراض معالجة الخلل في أوضاع السوق، وهو ما يتناقض مع وقائع الانفلات النقدي الذي يُصاحِبُ تكرارا انكفاء البنك المركزي عن التدخل في المبادلات النقدية بائعاً الدولار عبر منصة صيرفة.
كما يندرج ضمن النقاط الساخنة في الملف العالق بين الطرفين، صعوبةُ الاستجابة التي تُقارِبُ حدودَ التعذر للمطالبة بإعادة النظر مجدداً بقانون تعديلات السرية المصرفية. حيث تقتضي فعالية تنفيذ هذه الاستراتيجية، وفق الصندوق، تعديلاتٍ تعالج مَواطن الضعف الحساسة التي لا تزال مستمرّة على الرغم من التحسينات المهمة التي أُدخلتْ بموجب عملية الإصلاح السابقة.
وعلى وجه التحديد، ينبغي وفق الوصفة المحدَّثة، أن يتاح للجهات المعنية الاطلاعُ على البيانات المتعلّقة بمعاملات الأفراد وودائعهم المصرفية. وبالإضافة إلى ذلك، يتعيّن تحديثُ الإطار القانوني والمؤسسي في البنك المركزي وهيئات الرقابة المصرفية الأخرى من أجل تقوية الحوْكمة والمساءلة بغية إعادة بناء الثقة في المؤسسات.
ولزيادة درجة الشفافية، ينبغي نشر عملية التدقيق الخاصة لأوضاع البنك المركزي.