استقرار المؤشّرات النقديّة: هدوء ما قبل العاصفة
كتب علي نور الدين في “المدن”:
أظهرت ميزانيّات مصرف لبنان خلال النصف الأوّل من شهر تشرين الثاني استقرار المؤشّرات النقديّة الرئيسيّة، التي عكست توقّف عمليّات امتصاص الدولار النقدي من السوق الموازية، ما يفسّر إلى حد كبير استقرار سعر صرف الدولار خلال الأيّام الماضية. وبذلك، يكون المصرف المركزي قد نفّذ فعليًّا ما وعد به سابقًا، في بيانه الذي صدر خلال الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأوّل، والذي أعلن أنّ منصّة صيرفة لن تكون شارية للدولار “حتّى إشعارٍ آخر”.
إلا أنّ جميع المؤشّرات تشير إلى أنّ ما يجري حاليًّا ليس سوى تهدئة نقديّة محدودة الأثر، ستسبق عاصفة مرتقبة خلال الأسابيع المقبلة، بسبب جملة من القرارات التي قد تفرض عودة التوسّع في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في السوق.
مؤشّرات الميزانيّة
وفقًا للميزانيّات، لم تشهد احتياطات المصرف المركزي أي تغيّر يُذكر بين بداية شهر تشرين الثاني ومنتصفه، إذ ظلّت مستقّرة عند مستوى قارب 10.3 مليار دولار. وبهذا المعنى، لم تعكس هذه الأرقام أي عمليّات شراء للدولار من السوق الموازية، كما جرى بين منتصف أيلول ونهاية تشرين الأوّل، حين رفع المصرف المركزي احتياطاته بنحو 653 مليون دولار نتيجة شراء الدولار النقدي من السوق مباشرة (راجع المدن). مع الإشارة إلى أنّ هذه العمليّات ساهمت خلال تلك الفترة بالضغط على سعر صرف الليرة بشكل سلبي، نتيجة تقليص المعروض النقدي من العملة الصعبة في السوق.
حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة عكس الاتجاه نفسه. إذ استقرّ حجم هذه السيولة في منتصف تشرين الثاني عند حدود 70.99 ألف مليار ليرة، بانخفاض محدود عند مستوياتها في بداية الشهر، والتي بلغت قرابة 75 ألف مليار ليرة، ما يدل على توقّف مصرف لبنان عن طباعة النقد وضخه في السوق لتمويل شراء الدولار من السوق.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حجم هذه السيولة ارتفع بشكل سريع في وقت سابق من 45 ألف مليار ليرة في منتصف أيلول، إلى 75 ألف مليار ليرة في أواخر تشرين الأوّل، نتيجة ضخ النقد بالليرة لشراء الدولار من السوق في تلك المرحلة. يومها، ساهمت تلك التطورات في زيادة سعر صرف الدولار مقابل الليرة (راجع المدن)، إذ أنّ أي سيولة إضافيّة بالليرة في السوق باتت تتحوّل سريعًا إلى طلب فوري على الدولار، بالنظر إلى فقدان الثقة بالعملة المحليّة.
إنما في جميع الحالات، من الواضح اليوم أن توقّف مصرف لبنان، منذ بداية الشهر الحالي، عن شراء الدولار من السوق، أدّى إلى توقّف ضخ النقد بالليرة بهذا الشكل وفرملة توسّع الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، ما انعكس أيضًا في تهدئة الضغوط على الليرة اللبنانيّة في السوق الموازية على مدى الأسبوعين الماضيين. وفي الوقت نفسه، عكست الميزانيّات -نتيجة هذا الأمر أيضًا- توقّف بند الموجودات الأخرى عن التوسّع، وهو البند الذي يشمل الخسائر المتراكمة في الميزانيّة.
عاصفة نقديّة مقبلة
كل ما سبق ذكره، بات يسبق اليوم عاصفة نقديّة مرتقبة، مع دخول موازنة العام 2022 حيّز التنفيذ، بما فيها زيادات المساعدة الاجتماعيّة على الرواتب والأجور. فكلفة بند الرواتب والأجور في الميزانيّة العامّة، بعض إضافة بند المساعدة الاجتماعيّة الذي أقرّته الموازنة، سيترفع من 1.3 ألف مليار ليرة إلى ما يقارب 3.3 ألف مليار ليرة (أي زيادة بنحو 3 أضعاف، مع مفعول رجعي يغطي الأشهر العشرة الماضية). وبينما كان من المرتقب تمويل الجزء الأساسي من هذه الزيادة عبر زيادة الواردات، التي ستترافق مع تعديل الدولار الجمركي، بات من الواضح أن الموازنة تضمّنت مبالغات في تقدير العديد من بنود الواردات، فيما لا يبدو من الواضح حتّى اللحظة توقيت تطبيق تعديل الدولار الجمركي.
بهذا المعنى، من الواضح أن الزيادات في بنود الإنفاق، وأهمها بند الرواتب والأجور، ستأتي على حساب حجم الكتلة النقديّة وقيمة النقد الذي يطبعه مصرف لبنان، لتسليف الدولة وتمويل نفقاتها. وهذا ما سيعني زيادة الضغط على أدوات السياسة النقديّة التي يعتمدها مصرف لبنان لضبط سعر صرف العملة المحليّة، وحجم المعروض النقدي من الليرة في السوق. مع الإشارة إلى أنّ هذا التطوّر السلبي لا يتصل حكمًا بعمليّة إقرار المساعدة الاجتماعيّة، التي جاءت كنتيجة طبيعيّة وضروريّة لتدهور قيمة أجور العاملين في القطاع العام، بل من الخفّة في مقاربة إدارة واردات الدولة اللبنانيّة وتصحيحها بالتوازي مع التدهور في سعر الصرف.
كما سيضاف إلى هذا العامل عامل زيادة سعر الصرف المعتمد للسحوبات من المصارف، والذي سيتم رفعه من 8000 ليرة للدولار إلى 15 ألف ليرة للدولار، بالإضافة إلى زيادات اعتمادات النفقات الجارية في جميع الإدارات العامّة. ومرّة جديدة، ستساهم جميع هذه العوامل مجتمعة بزيادة الضغوط النقديّة خلال الأشهر القليلة المقبلة، وتحديدًا بفعل اختلال توازنات العرض والطلب على العملة الصعبة في السوق. وفوق كل ذلك، سيُضاف إلى كل هذه الضغوط العامل الأهم، المتمثّل في غياب الثقة التام نتيجة تعطيل جميع مسارات الحل الماليّة، في ظل الفراغين الرئاسي والحكومي وتعليق تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي.
في خلاصة الأمر، ما نعم به لبنان من تهدئة نقديّة طوال الأسبوعين الماضيين هو الاستثناء لا القاعدة. أمّا القاعدة الأولى والأخيرة، فستظل تعميق كل تداعيات وأبعاد الانهيار، طالما أن الدولة اللبنانيّة تفتقر لرؤية ماليّة شاملة للمعالجة، وهذا تحديدًا ما ينطبق على سوق القطع ووضعية الليرة اللبنانيّة فيه.