صلاحيات الحكومة “صامدة”
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
كما توقّع كثيرون، لم تنتهِ ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون قبل توقيعه مرسوم استقالة الحكومة. التساؤلات حول إمكانية ممارسة حكومة تصريف الأعمال «المستقيلة» صلاحيات الرئيس، كثيرة، وانقسام الآراء إزاءها أشبه بتحديد جنس الملائكة. البعض يرى أن ما قام به الرئيس إنما يندرج تحت خانة «الخيانة العظمى»، إذ لا يحق له وقف عملية تسيير المرافق العامة ما يشكّل خطراً على وضع الدولة الأمني والإداري والداخلي كما على صورتها في الخارج. في حين يصرّ آخرون على ضرورة التزام الحكومة بتصريف الأعمال بالمعنى الضيّق للكلمة، إن لم يكن الأضيق من الضيّق، بعيداً من صلاحيات الرئاسة الأولى.
على تعدّد التفسيرات، يتمثّل الجواب الأنجع، كما يجمع كثيرون، بالعودة إلى أعمال نصوص الدستور، وفقاً للقواعد العامة في التفسير، التي تقضي بإعطاء النصوص مفاعيلها القانونية بما يجعلها مكمّلة لبعضها البعض. وهذه بعض القراءات.
الفراغ مرفوض
مدّعي عام التمييز السابق، القاضي حاتم ماضي، اعتبر بداية في حديث لـ»نداء الوطن» أنّ الحكومة الموجودة، كما جاء متوافقاً مع روح الدستور وعند شغور منصب رئيس الجمهورية، تتولى بنفسها مهمة تصريف الأعمال. «جاء في النص الدستوري عبارة «مجلس الوزراء» من دون أن يضاف إليها شيء. وهو ما يسمح بالاستنتاج أنه يمكن لحكومة تصريف الأعمال الاستمرار خاصة وأنّ الظروف الراهنة تحول دون تأليف حكومة جديدة»، كما يجيب ماضي عن سؤال حول استمرار الحكومة بالحكم بعد خلو سدّة الرئاسة الأولى، أكانت كاملة الأوصاف أو خلاف ذلك.
وعن إمكانية أن تحكم حكومة تصريف الأعمال بالوكالة عن رئيس الجمهورية عند خلوّ مركزه، يؤكّد حاتم أنّ «ذلك يحق لها، إذ، إن كان يجوز لها تصريف الأعمال فَمِن الطبيعي أن تتولى الحكم بالوكالة عن الرئيس، سيّما وأنها لا تحلّ محلّه في كل صلاحياته، حيث ثمة صلاحيات لصيقة بشخص الرئيس ولا يحق للحكومة أن تمارسها عنه». ويضيف ماضي أن الدستور ونصوصه، كما العرف الدستوري السائد، يأبيان الفراغ الدستوري. علماً أنّ آلة الحكم يجب ألا تُعطَّل كي لا يُعطَّل معها المرفق العام الدستوري الضروري لتمكينها من ممارسة سلطتها عبر أجهزتها المختلفة.
بين المجلس والحكومة
من ناحيته، أشار الخبير الدستوري والقانوني، الدكتور خليل حمادة، في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية، في حال شغور سدّة الرئاسة لأي علّة كانت، تُناط وكالة بمجلس الوزراء، لا بالحكومة. «هناك فرق كبير بين الحكومة التي هي السلطة السياسية، وبين مجلس الوزراء أي حين يجتمع أعضاؤه. فالأخير يمكن أن يجتمع برئاسة رئيس الجمهورية بدلاً من رئيس الحكومة وذلك بموجب الفقرة الأولى من المادة 53»، بحسب حمادة.
ماذا عن انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة المستقيلة؟ جواب حمادة كان بالنفي القاطع، إذ، من وجهة نظره، تنتقل الصلاحيات إلى مجلس الوزراء مجتمعاً في حين أنّ المجلس لا يجتمع في ظل حكومة مستقيلة. «لو سلّمنا جدلاً بعقد اجتماع استثنائي لسبب طارئ، فَمَن يدعو لعقد هذا الاجتماع بموجب الفقرة 12 من المادة 53 هو رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة. من هنا، ومع غياب رئيس الجمهورية، لا يمكن دعوة مجلس الوزراء حتى لاجتماع استثنائي».
وفي حال مواجهة البلد لوضع خطير يستلزم اتخاذ قرارات استثنائية، لفت حمادة إلى ما يُسمّى مصلحة الدولة العليا التي تحتّم على الفرقاء المعنيين التحرك لعقد اجتماع مصغّر يُتّخذ على أساسه القرار بالتسيير. وردّاً على تخوّف البعض من «تسلّم» الطائفة السنية الحكم في مرحلة الشغور، علّق حمادة: «يوضع هذا الكلام في خانة الشحن الطائفي الذي يخبّئ وراءه نوايا غير سليمة. فإن كان هناك من يريد تغذية الصراع الطائفي في البلد، الوقت ليس مناسباً لذلك».
صلاحيات إستثنائية
للمحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية رأي مخالف. فقد شرح في دردشة مع «نداء الوطن» أن الحكومة هي التي تمارس أعمال السلطة التنفيذية راهناً، حتى لو كانت حكومة تصريف أعمال وبصرف النظر عن صدور مرسوم قبول استقالتها. «ذلك يصحّ حتى لو لم تكن مجتمعة لأن كل وزير يقوم بتصريف الأعمال إفرادياً، من دون اجتماع الحكومة الذي أصبح أمراً استثنائياً للغاية بسبب وضعيتها الراهنة»، على حدّ قوله.
وتطبيقاً لما ورد في المادة 64 المعدّلة بعد الطائف، تُحصر مهام حكومة تصريف الأعمال بأعمال الإدارة الضرورية (Actes de Gestion) من دون الأعمال التصرّفية (Actes de Disposition)، وذلك لضمان عدم توقف المرافق العامة واستمرار الخدمات العامة بالحد الأدنى الضروري لعدم انقطاعها. ويتابع مرقص: «لكن، في حال طالت فترة تصريف الأعمال من دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تقوم الحكومة بممارسة صلاحيات الرئيس وكالة، إن اقتضى ذلك بعض الأحيان، بموجب المادة 62 من الدستور، وذلك استثنائياً وبالحد الأدنى الضروري واللازم فقط لاستمرار الحكم والمرافق العامة. ويتزامن ذلك مع السعي إلى تجنّب ممارسة أي صلاحية يمكن تفاديها حتى انتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة أصيلة».
الممارسة تلك تكون على مستوى الوزراء في وزاراتهم من حيث تسيير الخدمات العامة ولا يمكن أن تُختَصر الصلاحيات بشخص رئيس الحكومة. فالأخير يكتفي فقط بالتنسيق بين الوزارات والإدارات من أجل تطبيق مفهوم تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق الذي تمّ تفسيره.
للوكالة ضوابط
بين هذا الرأي وذاك، تبقى نظرية تصريف الأعمال نظرية اجتهادية من صنع القضاء الإداري، ولا تتطرق إليها الدساتير عامة. إلّا أن الدستور اللبناني أراد أن يقوننها بعد التعديلات التي أُدخلت عليه بموجب اتفاق «الطائف». الكلام هنا للباحث القانوني ميشال فلاح الذي أضاف أن حالة الفراغ التي يمكن أن تحصل ما بين شغور المركز وإشغاله بالانتخاب، لم تَغِب عن بال المشرّع الدستوري. وكان ذلك عملاً بالمبدأ العام بأن لا فراغ في السلطة وفي المؤسسات الدستورية، فجاءت المادة 62 من الدستور واضحة وجليّة في تصريحها: «في حال خلو سدّة الرئاسة لأي علّة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء».
«الضوابط» هي ما يجب احترامه عند تطبيق نص هذه المادة. فقد حدّد المشرّع الدستوري آلية لا يجوز تجاوزها في إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء – ونتحدث هنا عن الوكالة. فعلى الرغم من أنّ نطاق نظرية الوكالة لم يُحدَّد في القانون العام خلافاً للقانون الخاص، إلّا أنّها حالة مؤقتة واستثنائية تهدف إلى تأمين استمرارية المرافق العامة منعاً لحدوث أي فراغ.
ويكمل فلاح: «تطبيقاً للحالة الاستثنائية وإنفاذاً لسائر مواد الدستور، ليس بمقدور مجلس الوزراء، خلال فترة الشغور الرئاسي، ممارسة كلّ صلاحيات رئيس الجمهورية. ذلك أن بعضها يُستمد من ذاتيّته كطلب إعادة النظر في قرارات اتخذها مجلس الوزراء وفق المادة 56، على اعتبار أن هناك استحالة في أن يردّ مجلس الوزراء قراراً اتّخذه بنفسه».
سنداً لهذا المنحى، لا تستطيع الحكومة، خلال فترة الشغور، اتخاذ مقررات رئيس الجمهورية التي يشاركه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير المختص وفق المادة 54 من الدستور، إلا إذا كانت تطبيقاً لقرار صادر عن مجلس الوزراء. ويأتي ذلك منعاً للالتفاف على المواد 17 و62 و65 من الدستور، وجميعها مقررات تُستمد من موقع وذاتية الرئيس.
شماعة التعطيل
بالنسبة للحلول، يرى فلاح أن الشروع في انتخاب رئيس الجمهورية ضمن المهلة الدستورية إعمالاً لنص المادة 73 من الدستور، من دون تأخير، ومنعاً لحصول أي شغور في منصب الرئاسة، يشكّل أولوية على أي عمل آخر. فخلو سدّة الرئاسة بسبب عدم انتخاب الرئيس ضمن المهلة الدستورية، أو لأي سبب آخر، يضع بين يدي المجلس النيابي صلاحية واجب ملء هذا الشغور فوراً وبحكم الدستور.
أما بالنسبة للحكومة، فالانتخاب لا يتأثر بالوضعية القانونية للحكومة القائمة، سواء كانت مكتملة الكيان القانوني والدستوري وحائزة على ثقة مجلس النواب، أو حكومة مستقيلة أو مُعتَبَرة مستقيلة، أي حكومة تصريف أعمال. والحال أنّ الحكومة تبقى قائمة بتصريف الأعمال حتى لو مستقيلة أو مُعتَبَرة كذلك، وتمارس صلاحياتها بالحد الأدنى لتصريف الأعمال، بما في ذلك ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة، وفي إطار ونطاق مفهوم ومضمون تصريف الأعمال.
أخيراً، لا يغيّر شغور منصب رئاسة الدولة أثناء قيام الحكومة بتصريف الأعمال من طبيعتها القانونية ولا من مهامها. فانتخاب رئيس جديد وبدء ولايته يجعلان الحكومة، في ما لو كان كيانها القانوني والدستوري مكتملاً، حكومة مستقيلة حكماً بما يحوّلها بالتالي حكومة تصريف أعمال.
بالمحصّلة، يشدّد فلاح على أن المشرّع الدستوري لم يُغلق الباب أمام تعطيل الاستحقاقات الدستوريّة. لكن لا يجوز أن تبقى الحلول المؤقتة شمّاعة لإسقاط الواجبات الكبرى المُلقاة على المؤسسات الدستوريّة، لأنها وُضعت لفترة قصيرة لم يكن المشرّع يتوقّع إطالتها. فالحاجة إلى ذلك، بحسب رأيه، ملحّة احتراماً لما تبقّى من خصوصية للكيان اللبناني، وفي ظرفٍ استثنائي يقتضي أن تتداعى كلّ الجهود من أجل تفعيل الدولة لا تهشيمها وتعطيلها بالاعتكاف عن واجب تشكيل الحكومة، وتالياً انتخاب رئيس للجمهورية.