أيّ مصير بعد الشغور الرئاسي؟
كتب فارس خشّان في “الحرة”:
بمناسبة حلول المهلة الدستوريّة لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ليحلّ مكان الرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته، في الساعة صفر من الحادي والثلاثين من تشرين الاول الحالي، حوّل رئيس مجلس النوّاب اللبناني نبيه برّي البرلمانيّين اللبنانيّين من ممثّلين للشعب الى ممثّلين على… الشعب!
وبناء على دعوات وجّهها برّي، عقد النوّاب اللبنانيّون، حتى يوم أمس، ثالث جلسة انتخابية، مع إدراكهم المسبق أنّهم سيُحدثون جعجعة من دون أن يُنتجوا قمحًا، لأنّ رئيس المجلس النيابي وسائر شركائه في الطبقة الحاكمة يقفلون الأفق أمام انتخاب طبيعي لرئيس جديد، إذ إنّ هؤلاء برفضهم الخوض في اللعبة الديمقراطيّة، يصرّون على التوصّل، في الكواليس التفاوضيّة حيث يصب اختلال ميزان القوى لمصلحتهم، إلى فرض التوافق على شخصيّة تُناسبهم، من دون أن تُحرجهم.
وإذا ما بقيت المعادلات السياسيّة على ما هي عليه راهنًا، فإنّ الدعوات التي سيكثّفها برّي، في الأيّام العشرة المقبلة، لن يكون مصيرها أفضل من مصير الثلاث السابقة، وسوف يواظب النوّاب على أداء الأدوار المنوطة بهم، في مسرحية طويلة جدًّا، عنوانها “الضحك على الذقون”.
ومن دون غرق في التفاصيل اللبنانيّة، فإنّ توزّع القوى في المجلس النيابي الحالي، وفي ظلّ المنهجيّة المتّبعة منذ سنوات طوال، لا يسمح بانتخاب رئيس للجمهوريّة، من دون توافق، طالما أنّ فئة تملك قدرة التعطيل مصرّة على فرض هذا التوافق فرضًا.
ولانتخاب رئيس للجمهوريّة هناك شرطان متلازمان لا يمكن لأيّ فئة أن توفّرهما وحدها: تأمين نصاب مكوّن من ثلثَيْ عدد النوّاب الذين يتشكّل منهم المجلس النيابي، الأمر الذي يحول، بانعدام التوافق، دون تمرير انتخاب رئيس للجمهوريّة في الدورة الثانيّة والجلسات التي تليها، بالأغلبية المطلقة المؤلّفة من نصف عدد النواب زائدًا واحدًا.
وهذا يعني أنّه على افتراض توحّدت الفئة التي ترفض “التوافق المفروض”، وجلّها من القوى التي تواجه هيمنة “حزب الله” على القرار السياسي في البلاد، وأصرّت على ممارسة اللعبة الديموقراطيّة، ونجحت في توفير خمسة وستين صوتًا لمصلحة مرشّح اتفقت في ما بينها عليه، فهي ستعجز عن انتخابه لأنّ الفئة التي تريد “التوافق المفروض” قادرة على تطيير نصاب الجلسة، وتاليًا على الحيلولة دون حصول عمليّة الانتخاب.
وقد عاين اللبنانيّون عن كثب، على مدى الجلسات الثلاث السابقة، تفاصيل “لعنة النصاب”.
ولكن، لماذا تريد الفئة التي تدور في فلك “حزب الله” فرض التوافق؟ واستطرادًا لماذا ترفض القوى المناوئة لـ”حزب الله” الذهاب الى التوافق طالما أنّه الباب المتاح لمنع الشغور في منصب رئيس الجمهوريّة؟
يشبّه البعض “حزب الله” بالرجل الذي يريد أن ينجب ولدًا، ولكنّه يرفض أن يعترف به، لذلك يفرض على رجل آخر أن يُعلن أبوّته له، ويتكبّد كلفة تربيته، ومسؤوليّة مشاغباته.
وبالفعل، فإنّ “حزب الله” يتطلّع إلى إيصال رئيس للجمهوريّة يحقّق له أهدافه في النظام السياسي اللبناني، وأبرزها على الإطلاق الدفاع عن سلاحه والأدوار المناطة به، في وجه كلّ المحاولات الداخليّة والإقليميّة والدوليّة الرامية إلى تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التي تجمع على وجوب نزع هذا السلاح، بصفته أكبر عائق كان قد حال سابقًا دون قيام الدولة، ويحول حاليًّا، دون إنقاذها، بعد انهيارها المريع.
ولكنّ “حزب الله” يرفض أن يكون هو “الوالد الشرعي” لهذا الرئيس، حتى لا ينقلب وبالًا عليه، بحيث تضعف قيمة دفاعه عن مصالح الحزب الإستراتيجيّة، ويتعرّض لهجوم داخليّ مبكر، ومقاطعة دبلوماسيّة سريعة.
وفي الواقع، وبغض النظر عن المواصفات “الطوباويّة” التي تحاول القوى اللبنانيّة على اختلافها إسباغها على “الرئيس المنشود”، فإنّ الوظيفة الدستوريّة الأساسيّة لرئيس الجمهوريّة، لا تكمن في علاقته بالدولة ومؤسساتها، إذ إنّ الدستور يعطي الصلاحيات الأساسيّة في هذا الإطار لمؤسّسة مجلس الوزراء، بل هي تكمن في المسائل السياديّة التي يريد “حزب الله” “تطويعها” لمصلحته، فتكون له الكلمة الفصل، سلبًا أو إيجابًا، وفق ما حصل في اتفاق ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، إذ إنّه لولا الموافقة التي حصلت عليها السلطات الدستوريّة المختصّة من الحزب، لما كان قد وصل الاتفاق إلى “نهايته السعيدة”.
وعليه، فإنّ “حزب الله”، ومن دون أن يتوافر له حاليًا شخص يملك ما كان يملكه العماد ميشال عون من “مشروعيّة” شعبيّة في العام 2016، حين أصرّ على انتخابه ودفع بالقوى السياسيّة المعارضة إلى الرضوخ، بعدما عقدت صفقات ظنّتها مربحة معه، يريد التوصّل إلى توافق يعينه على أن يوصل شخصيّة تؤدّي الوظائف التي حرص عون من خلال تيّاره السياسي الذي سلّمه الى صهره جبران باسيل، على القيام بها.
وهذا بالتحديد ما ترفض القوى السياسيّة المناوئة لـ”حزب الله” القيام به، لأنّها سوف تتحمّل المسؤوليّة عن مسار هي مقتنعة كامل الاقتناع بأنّه أودى بالبلاد إلى الجحيم الذي تعاني من حرائقه المشتعلة، كما سبق لها أن تحمّلت، ولسنوات عدّة، المسؤوليّة عن نتائج ولاية الرئيس عون “الكارثيّة”.
كلّ ذلك لا يعني أنّ هذه الفئة تنبذ مبدأ التوافق، ولكنّها ترى أنّ المشكلة تكمن في القواعد التي يفرضها “حزب الله” للوصول إلى توافق يحقّق له أهدافه على حساب سيادة الدولة.
إذن، طالما أنّ قواعد التوافق المقبولة غير متوافرة، وبما أنّ الفئات الرافضة لـ”التوافق المفروض” عاجزة عن إيصال رئيس جديد للجمهوريّة باعتماد اللعبة الديمقراطية، فماذا سيكون عليه المشهد اللبناني، بدءًا من الحادي والثلاثين من تشرين الاول المقبل؟
ثمّة تخوّف من لجوء الفئة التي تريد فرض التوافق، مع الأجهزة الداعمة لها، إلى “قبّ الباط” لمجموعات جاهزة للعبث بالأمن في المناطق الأكثر هشاشة، ولذلك يتمّ الترويج لتدهور أمني “وشيك” في شمال لبنان، طالما أنّ جبهته الجنوبيّة دخلت في “هدنة طويلة” نتيجة اتفاق ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل.
على أن يلي هذا التدهور “المضبوط” دخول وساطات إقليميّة ودوليّة على خط الانتخابات الرئاسيّة، من خلال فرض “صفقة” كاملة لا تأتي برئيس للجمهوريّة فقط بل برئيس للحكومة أيضًا.
ويُخشى أن تنتهي هذه الوساطات على حساب القوى المناوئة لـ”حزب الله”، إذ إنّ المعطيات المتوافرة تشي باستعداد بعض هؤلاء “الوسطاء” على التنازل في لبنان الذي يحتلّ مرتبة ثانويّة في اهتماماتهم، في مقابل أثمان يحصدونها في أماكن باتت تشكّل أولويّة استراتيجيّة، بالنسبة لهم.
وفي حال ساءت النيات، فإنّ التعقيد قد يستمر الى اللحظة التي تنضج فيها ظروف انعقاد مؤتمر تأسيسي يعيد النظر بالنظام ككل، بأفق تشريع سلاح “حزب الله”، ليكون في لبنان ما هو عليه “الحرس الثوري” في إيران، أو “الحشد الشعبي” في العراق.
وثمّة من يرى أنّ قوى دوليّة أساسيّة ساهمت في الدفع نحو التطلّع الى “مؤتمر تأسيسي”، من خلال الإيحاء بأنّها مستعدة لمقايضة “رابحة” مع “حزب الله”، بحيث تأخذ منه ما تحتاجه لاستقرار مصالحها في الإقليم، وتعطيه، في المقابل، ما يكرّس به هيمنته على لبنان.
حتى تاريخه، تبدو القوى الضاغطة لإعادة لبنان الى “المعادلة الديمقراطيّة” مأزومة، على الرغم من الأدبيات الدوليّة التي طالما صبّت في خانتها، في حين أنّ القوى التي تتطلّع الى “توافق مفروض” تتصرّف وكأنّ الرياح تجري كما تشتهي سفنها بعدما ملأها “الغاز الإقليمي” زخمًا وعزمًا وثقة.