يخرجن من منازلهنّ “مدجّجات”… قصص ناجيات مع شبح الخوف على الطرقات
ديما عبد الكريم_النهار
“لبنان أصبح بيئة غير آمنة”، “فوبيا التوقيت الشتوي”، “الإيد عالمسكة” و”عيوني متل الرادار”. تلك عبارات مهداة من بطلات روايات، تركن قصصهنّ في زوايا الطرقات، إلى الدولة والرأي العام خلال رحلة أصبحت محفوفة بالمخاطر، في بلد بات يقتلنا ببطء بالخوف من التحرّش وال#سرقة والتعرّض لشيء ما منذ لحظة مغادرتنا المنزل حتى لحظة الوصول إلى وجهتنا.
يجمعنا الروتين اليوميّ على الطرقات. بالكاد نرى بعضنا البعض لسماكة البؤس المتراكم على وجوهنا، وإلى المستوى الذي يتهيّأ لنا عنده أنّ الابتسامة ما عادت “ببلاش”، أو أنّها على سعر الصرف مثلاً! نخرج مدجّجين بدروس الدفاع عن النفس، من أناس قد لا يكونون تهديداً، إلّا أنّنا أصبحنا مرغمين على أن نراهم كذلك!
“إللي كان يصير معي كلّ سنة مرّة هلّق عم يصير معي كلّ أسبوع، والموضوع كتير عم يأثر عليّي”. “ز.ب.” (23 عاماً) تقول لـ”النهار” إنّها اعتادت على استخدام السرفيس منذ أن كانت تلميذة في الجامعة، أي منذ العام 2017، واصفةً وسائل النقل العام في لبنان بـ”البيئة غير الآمنة”.
تروي لنا أنّه في إحدى المرّات، وبينما كانت متجّهة من بدارو إلى منزلها في الضاحية الجنوبية، سألها السّائق “إنتي عنجدّ من الضاحية؟ يعني هيدا القمر الملاك من الضاحية، وعايش فيها؟”. كنت قد وصلت إلى مسافة قريبة من المنزل، تقول “ز.ب.”، فطلبت إليه أن يُنزلني جانباً.
مع اقتراب “التوقيت الشتوي”، تخطّط “ز.ب.” للعودة باكراً إلى منزلها “ما بعرف شو بدّي أعمل، وأنا بخلّص شغلي 4”. تشعر بالقلق من عدم تمكنّها من القيام بنشاطاتها كالذهاب إلى النادي مثلاً، أو لقاء الأصدقاء. “المشكل إذا مش بالشوفير، إيّام بكون من يللي معك بالسيّارة!”.
“ز.ب.”، التي تحمل بشكل دائم زجاجة ماء ستانلس كبيرة كوسيلة لحماية نفسها، تقول “إذا حدن جرّب يقرّب عليّي بضربو فيها، هيدا سلاحي الوحيد”. هي تفكّر اليوم باقتناء العصا الكهربائية، فضلاً عن أنّها تلجأ في بعض الأحيان إلى سائق خاصّ، بالرغم من ارتفاع التكلفة. “ولكن حتى مع السائق ما عدت أشعر بالأمان فقد يوقفنا أحدٌ ما ويتعرّض لنا”.
في الطريق إلى المنزل، تقول “ز.ب.” إنّها تشعر بأن الجميع سيقوم بسرقتها خلال النهار، أمّا ليلاً فالمخاوف تزداد “سرقة وتحرّش حتى صرت شوف أهلي معن حق بالرّجعة بكّير. ما في أمان لا بالضهرة ولا بالسرفيس، ولا ع الطرقات ولا الناس حتّى”.
تُعيد “ز.ب.” اليوم التفكير في النشاطات التي تقوم بها، وتؤكّد “أنا صرت خاف إتأخر، وهيدي الفترة، رغم إني بحسّ إني بحاجة قضّي وقت برّات البيت، صرت خاف”.
تروي “ل.س.” لـ”النهار”، وهي التي عادت إلى لبنان منذ فترة، أنّها السبت الماضي عند الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، وفي طريقها إلى منطقة سليم سلام شاهدت شاحنة أمامها في داخل النفق “ما كان يزيح. قلت بنطر يخلص النفق وبدوبل عنّو”. في تلك اللّحظات، اقتربت سيّارة سوداء صغيرة من سيّارتها، وكادت تلتصق بها. وبعد أن تخطّتْ النفق، ووصلتْ إلى الأوتوستراد، اعترضتها السيّارة ونزل سائقها، وبدأ يُهشّم الباب والشبّاك ويحاول كسرهما، ولم يردعه عن المحاولة غير وجود عدد من الشبّان في المحيط، فعاد إلى سيّارته. ولكنّ عندما أكملت طريقها عاد ولحق بها، وضرب سيّارتها من الجهة الأمامية. قامت “ل.س.” بتوثيق ما حصل معها بالفيديو مع رقم لوحة السيارة ووجه الشّاب الذي بدا واضحاً.
تصف “ل.س.” لحظات الرعب التي عاشتها… “هيدي أكيد مش محاولة سرقة. ما بعرف شو كان بدّو! أكيد بيتعاطى مخدّرات. هيدا الإنسان لو معو فرد كان قوّصني، ولو هوي إللي معو السيارة العالية مش أنا، كنت أكيد متت!”.
أمّا “س.ز.”، وهي طالبة في #الجامعة اللبنانية في الحدث، فتروي لـ”النهار” ما حصل معها في طريق عودتها بالباص. تقول: “كان كتير شوب. شلت الشنطة وحطيّتا عالمقعد. فجأةً في شابّ لابس زيّ عسكري، وقاعد حدّي، حطّ إيدو ع إجري. شلتلّو إيدو، وطلّعت العصاية لي بتكهرب، وحطيّتا ببطنو، خاف وضبّ حالو ونزل”.
تقول الطالبة في الجامعة اللبنانية إنّها قامت بتشغيل كاميرا الهاتف، “حسيت وكأنو كان في نظرات بينو وبين شوفير الباص”. قصدت الطالبة في اليوم التالي النقيب في الثكنة الموجودة بالقرب من الجامعة، فسألها إن كانت قامت بتصويره أو تصوير رقمه العسكريّ، وقال لها: “ما فينا نعمل شي إذا ما معك صورة، بس إذا رجع صار شي خبّرينا لناخد الإجراءات المطلوبة”.
لم تخبر “س.ز.” أهلها بما واجهته فـ”رح يحطّو الحق عليّي، أو رح يوقفوني عن الجامعة بسبب الإشيا اللي عم تصير، وعم نسمعها بالفانات، أو رح انحطّ في موقف محرج لأن مجتمعنا بيعتبر البنت هيّي لي فتحت مجال. خبّرت إختي حتى حدن يكون عارف”. وتختم: “منذ ذلك الحين أضطرّ للدفع عن شخصين لكي لا يجلس أحد إلى جانبي”.
المنسّقة التقنية لإدارة الحالات في منظمة “#أبعاد”، ليلى حمدان، كشفت لـ”النهار” عن أن “الاتصالات التي وردتنا إلى المركز في العام 2021 بلغت ما يقرب من 3600 اتصال من قبل سيدّات وشابّات وفتيات واجهن كافّة أنواع ال#عنف القائم على النوع الاجتماعي. أمّا في العام 2022 فبلغ عدد الاتصالات حتى تاريخه ما بين 1150 و1200 اتصال”، لافتةً إلى أنّ “ارتفاع تكلفة الاتصالات أثّرت بشكل كبير على هذه الأرقام، وبات البعض يلجأ للإحالة الفردية المباشرة على المركز”.
توضح حمدان بأنّ “ال#تحرش الجنسي يبدأ من المضايقة اللفظية عبر الكلام البذيء أو الشتم أو حتى الكلام الذي يحمل إيحاءات الجنسية، ويصل أحياناً إلى مستوى الاعتداء الجسدي. وضمن نطاق عملنا، شهدنا ازدياداً في هذه الحالات، وارتفاعاً في عدد التبليغات؛ والقصص لا تقتصر على المضايقات اللفظيّة بل تتطوّر إلى اللّمس والاعتداء الجنسي، كما أننّا نشهد محاولات الاغتصاب حيث تتمكّن النساء من النجاة”.
تُشير المنسّقة التقنيّة لإدارة الحالات في منظّمة “أبعاد” إلى أنّ “هذه الحالات تحصل في مناطق سكنية شعبية أكثر من غيرها، في الفانات والباصات، وكذلك في الأماكن المكتظّة، والموضوع لا يقتصر على اللبنانيّات بل على نساء من جنسيّات أخرى موجودات على الأراضي اللبنانية”.
تضيف: “قانون تجريم التحرش الجنسيّ وتأهيل ضحاياه وإقرار الحماية للمبلّغين عنّه أقِرّ في العام 2020، أي من عامين فقط. ولكن – للأسف – بعد إحراز هذا التقدّم التطبيق غير موجود، والقانون لا يستوفي المعايير الدولية”، لافتةً إلى أنّ “الحكومة اللبنانية لم تتبنَّ اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش، وهذا يسهم في العودة إلى الوراء؛ والحلّ الأفضل أن نرتقي إلى هذا النوع من الاتفاقيات، ونبدأ بمعالجة أشكال العنف من خلال نهج شامل يُراعي ويتناول كافة القضايا، وصولاً إلى تعديل قانون العمل والقانون الجنائي وغير ذلك. والأهمّ تطبيق تجريم التحرّش الجنسيّ لردع صاحب هذا السلوك على قاعدة “إذا عملت رح إتعاقب”.
تشدّد حمدان على ضرورة التبليغ عن حالات التحرّش وعدم الخوف والتكتّم بعيداً من العيب ولوم المجتمع، وتقول: “نعمل على التوعية من خلال برامج لكيفية التعامل مع الأشخاص من ذوي هذا السلوك، ما ضروري تبادلي الشتائم، لأنّ ممكن يكون عندو سلوك عدوانيّ أو إجرامي. صرّخي! إلفتي النظر إنّو في شي غلط. قوليلو زيح إيدك! انزلي من السيّارة في حال لاحظتي أيّ شي، هدّديه بالقوى الأمنية. في حال قفّل الباب اطلبي منّو يفتحو. كلّها قصص من حقّك تعمليها وتدافعي عن حالك فيها”.
وتؤكّد أنّنا في جمعية “أبعاد” “نحاول دائماً التنسيق مع القوى الأمنية لتفعيل القانون بالطريقة الأنسب”، وأنّه “على الدولة أن تبدأ بتطبيق القانون بطريقة عادلة ومنطقية، إن كان من الانطلاق بالتوعية وصولاً إلى التبليغ على الرقم 1745، وهو الخطّ السريع للأمن الداخلي، الذي تستطيع من خلاله أيّ سيّدة التبليغ للحماية أو على الرقم 012”.
وتختم: “يجب أن نناصر هذه القضية بدءاً من “إيه، بدّي بلّغ، وبدّي إحكي”. ونحن ندعم ونضع كلّ إمكانياتنا بتصرّف النساء والفتيات، ونتابع حتى النهاية من خلال إدارة الحالة، ووضع خطة السلامة والحماية بطريقة صحيحة، وصولاً إلى تكليف محامٍ أحياناً، وتأمين استشارات قانونية وتوفير الدعم النفسي؛ وعلى المجلس النيابي أن يعتبر هذا الموضوع أولويّة بالرغم من زحمة الأولويات؛ فالجرائم تتكدّس، وذلك يزيد الانحدار النفسي والاجتماعي”.