عام دراسيّ مقبل متعثّر
كتب نعمة نعمة في “الأخبار”:
تغصّ مواقع التواصل الاجتماعي بعروض لوظائف تحدّد بدل الأتعاب والتقديمات بوضوح مثل: ناطور فيلا براتب 200 دولار مع سكن، مساعدة منزلية من 9 حتى 6 مساءً براتب 300 دولار، راعي أغنام وماعز لـ200 رأس مع سكن براتب 10 ملايين ليرة، سائق لعائلة براتب 200 دولار…
ينظر المعلمون/ات إلى هذه الإعلانات بحسرة فهي مهن لا تتطلّب شهادة جامعية ولا مهارات علمية وأكاديمية معروضة براتب يوازي ضعفاً إلى أربعة أضعاف راتب المعلّم وربما الأستاذ الجامعي.
ليس غريباً أن يأخذ عدد كبير من المعلمين والمعلمات خيار الهجرة أو التوقف عن التعليم، فقد أشارت رئيسة رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، ملوك محرز، إلى أن 35% من الأساتذة الثانويين تقدّموا بإجازات مفتوحة أو استيداع وتعليق عقودهم لمدة سنة قابلة للتجديد في القطاع الرسمي، وهناك نحو 4 آلاف معلّم (رقم تقديري) في القطاع الخاص تقدّموا بطلبات سحب تعويض، عدا هجرة الأساتذة الجامعيين في العامين الأخيرين.
تشير أرقام النشرات الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء بين عامي 2018 و2021 إلى أن عدد المعلمين/ات في القطاع الخاص تراجع بـ6917 أستاذاً بين ملاك ومتعاقد (5905 أساتذة من التعليم الخاص غير المجاني، و1012 أستاذاً من التعليم شبه المجاني)، أي ما نسبته 13.3% من العدد الإجمالي. كما أن 82% من هؤلاء هم من دون الأربعين سنة!
من الواضح أننا في دولة لا تنظر إلى التبعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناتجة عن إجراءاتها، وكلّ وزير أو وزارة تُخضع القوى المنتجة فيها وتحافظ على بقائها في المستوى الذي يحدّد استمراريتها في السلطة بشتى الوسائل المتاحة من الإفقار إلى الإعلام إلى الإخضاع والقمع إلى التجاهل..؛ وهي ممارسات غير قانونية، ولا ديمقراطية، والحاكم فيها فعلياً هو خارج المؤسّسات يستحوذ على الدولة ومؤسّساتها، ويحوّلها إلى وزارة بلا قانون، حيث التسويف والمماطلة وتجاوز القوانين هي الأداة حتى لو تغيّر رأس الوزارة والحكومة.
ماذا يعني أن تتجاهل السلطات التشريعية والتنفيذية الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والمعرفية والمؤسساتية لأيّ قرار أو مرسوم أو تشريع متعلّق بالتربية؟ هل يظنّ المشرّع أن الطالب والتلميذ لن يستشعرا القلق الذي يلفّ حياة أستاذه أو حياة عائلته، والمطلوب منهما أن يقدّما ببسالة وتفانٍ وتضحية ما لا قدرة لأي مواطن على تحمّله؟
مهما كانت النيات صادقة لدى بعض المشرّعين، فطرق العمل والمنهجية المتبعة (أو اللامنهجية) لا تزال تعتمد الوسائل نفسها عبر توفير غطاء سياسي/طائفي لكلّ تدبير لضمان تحقيقه، دون أدنى اعتبار لآثاره المستقبلية والاجتماعية والاقتصادية… وعند الحديث عن التربية يُغيّب التربويون عن أي قرار ويُترك للإداريين. ما الكلفة التربوية لتقليص العام الدراسي اليوم من 170 يوم تدريس إلى 126 الذي أقرّه وزير التربية السابق الياس بو صعب؟ يتكرر الحديث في لجنة التربية النيابية اليوم عن إلغاء البروفيه أو جعلها اختيارية، بأيّ كلفة مستقبلية؟ هل سيتم إعداد نظام تقييم مناسب لهذا المشروع؟ من يعدّه؟ مجلس النواب أو المركز التربوي؟ يتطلّب ذلك تغيير منهاج كامل ونظام تقييم وتقويم للسنوات الدراسية السابقة.. هل قيّم المشرع لا عدالة قانون مساعدة المدارس (350 مليار ليرة للمدارس الخاصة و150 ملياراً للمدارس الرسمية) وتناقضه مع الاتفاقات الدولية والتزام الدولة مجانية التعليم وإلزاميته وجودته؟
كذلك كلّ الحلول المتعلقة بتصحيح رواتب المعلمين/ات لا تستند إلى معايير علمية ومستدامة أقله للسنوات الخمس المقبلة، لا يملك المعلمون/ات حلولاً ولا يسمح نمط العمل النقابي السائد بالمطالبة خارج مفهوم تصحيح الأجور ورفع بدلات النقل بينما القلق الغالب لديهم يصبّ في صميم الأمن الاجتماعي والاقتصادي لهذه الفئة في القطاعين الخاص والرسمي، ما قيمة المساعدة راتب أو اثنين أو ثلاثة في الشهر أو مساعدة 100 دولار أو غيرها… فالقاطن منهم في منطقة جبلية سيحتاج إلى 800 دولار ثمن حطب أو مازوت للتدفئة، فمن سيأخذ قيمة المساعدة فعلياً؟ التدفئة أو مولّد الكهرباء أو الطبابة أو الانتقال من وإلى العمل؟
العام الدراسي القادم متعثر حتماً لمن كان يعدّ متوسط الدخل، ومن بينهم المعلمون/ات وموظفو/ات القطاعين العام والخاص، ولن يكون التعليم الخاص مباحاً لهم. ويعبر الأمين العام للمدارسه الكاثوليكية، يوسف نصر عن مخاوفه بهذا الصدد فيقول إن المدارس الخاصة مهدّدة بخسارة 20% من تلامذتها العام المقبل، وبالتالي أساتذتها أيضاً. فبين عامي 2018/2019 و2020/2021 نلاحظ تزايد أعداد التلامذة اللبنانيين في التعليم الرسمي بنحو 60470 تلميذاً/ة، وتناقص أعداد المنتسبين إلى الخاص بـ 68925 تلميذاً/ة (49450 من التعليم الخاص غير المجاني و19475 من التعليم الخاص شبه المجاني) مقابل تناقص في العدد الإجمالي للتلامذة اللبنانيين بـ8440 تلميذاً/ة. وللمرة الأولى منذ عقود ستزيد أعداد الملتحقين بالتعليم الرسمي عن التعليم الخاص بسبب دولرة الأقساط وارتفاعها بشكل جنوني، وسيغادر التعليم الخاص ما يقارب 5000 معلم/ة إضافي إلى البطالة التامة أو المقنّعة.
بالمقابل ستسود الفوضى القطاع التعليمي الرسمي لعدم قدرته على استيعاب الملتحقين الجدد. وسينهار مستوى التعليم والقدرة المؤسساتية على إدارة الأزمة تباعاً في العامين المقبلين لغياب الحلول الناجعة والرؤى لدى الوزارة ومركزها التربوي والمستشارين والمشرّعين، وانسداد أفق الحلول لدى نقابات وروابط المعلمين وانحسارها بتصحيح الرواتب الورقية التي تلعبها السلطات بمهارة بوعودها الزائفة والمماطلة. مرة جديدة، كلّ تأخير في معالجة أزمة التعليم سندفع ثمنه خلال السنوات اللاحقة، فلا السياسيون ولا الحكام والمشرعون ولا النقابات والروابط ولا المعلمون/ات الأفراد ولا الأهالي يرون حلولاً وطرقاً بديلة لأنماط الحلول التي تقدمها السلطة وفروعها، لأنه وبكل بساطة ذكاء السلطة يعتمد على نرجسية المواطن/ة اللبناني/ة والجماعات فتتحكم بها لتسويق حلول موضعية ذات تأثيرات متضخّمة إنما في المستقبل. حان الوقت أن يعي الأفراد من معلمين/ات وأهالٍ أن المخرج هو في الانسلاخ عن اقتراحات السلطة، هناك فعلاً خيارات خارج المنظومة المدرسية. فالمدرسة باتت فضاءً غير عادل ولا منصف ويعزّز الفروقات الاجتماعية وقاتلاً للفئات الضعيفة والمهمّشة، وقاتلاً كذلك لفئة المعلمين/ات والأساتذة، وأيضاً للأمن الاجتماعي والاقتصادي لذوي الدخل المحدود بأدنى المستويات، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأمن التربوي.