جمعيات ذوي الإعاقة تلفظ أنفاسها الأخيرة
كتبت زينب حمود في “الأخبار”:
ما الذي يمكن أن يحرّك سلطة ما، للقيام بأيّ تحرّك، يحول دون نزول أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الشارع للمطالبة بالرعاية؟ يبدو أن الإجابة هي لا شيء. مرّ أكثر من أسبوع على الاعتصام الذي نفّذه الاتحاد الوطني لذوي الإعاقة أمام مصرف لبنان، والأزمة تراوح مكانها، مهدّدة عشرات الجمعيات الراعية لواحدة من أكثر الفئات ضعفاً في المجتمع، بالإقفال.
هناك مئة جمعية واثنتان في لبنان (102)، تُعنى برعاية المعوّقين وتأهيلهم، متعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية. هذه الجمعيات تقدّم الرعاية لـ10 آلاف معوّق (90% منهم دون الـ21 عاماً)، موزّعين بين إعاقة عقلية، حركية، بصرية، وسمعية، 8 آلاف و500 منهم تجري رعايتهم على نفقة وزارة الشؤون الاجتماعية. تعيش الجمعيات اليوم خطراً وجودياً جرّاء الأزمة المالية والمصرفية التي تعصف بالبلاد. فالمصارف تحتجز أموالها الخاصة وتمنعها من سحب أكثر من 8 ملايين ليرة شهرياً من حوالات وزارة المالية. والأخيرة لم تحوّل إليها الفواتير التي تعود لسنة وثمانية أشهر، علماً أن البدلات التي تُدفع تستند إلى دراسة مالية أُنجزت في عام 2011 ولا تراعي الانهيار الذي حصل وتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي.
تقليص الخدمات
صحيح أنه ما من جمعية إلى الآن أقفلت أبوابها، رغم تلويح البعض بذلك، واقتصر الأمر على إغلاق أقسام داخل المراكز، إلى جانب إقفال مركز الإعاقات الثقيلة في مؤسسة الكفاءات عام 2019، إلا أن صمود هذه الجمعيات هو مسألة وقت إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه. يشبّه رئيس الاتحاد الوطني لشؤون المعوّقين ومدير مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية إسماعيل الزين حال جمعيات ذوي الإعاقة بـ”اللبناني الذي باع كلّ ما يملكه من ذهب وأراضٍ منذ بداية الأزمة المالية، ووصل إلى طريق مسدود”. وكما استهلكت الجمعيات ما تملكه من مال خاص وتبرّعات، استنزف الموظفون طاقتهم ولم يعد بإمكانهم التضحية من دون رواتب توفر لهم العيش الكريم.
بدأ تهاوي الجمعيات يظهر من خلال تراجع الخدمات التي تقدّمها، “خفّفنا استهلاك الكهرباء في الغرف الأكاديمية، وقلّصنا عدد العاملين بنسبة 18% منذ بداية الأزمة إلى اليوم، كما تراجعت نوعية الغذاء الذي يُقدّم، وعدد المرات التي تُبدل فيها «الحفّاضات» في اليوم وصرنا نطلب من الأهل تأمينها”. التقشف موجود في جميع المؤسسات، كلّ بحسب إمكاناتها، ما يسمح لها الاستمرار لفترة أطول.
وأمام هاجس الإقفال، يسأل المعوّقون وأهاليهم: “إلى أين نذهب؟” ذلك أنه ما من خيار آخر آخر غير البقاء في المنزل، ما يعني من دون مبالغة إعدام هذه الفئة على مختلف الأصعدة الصحية والنفسية والاجتماعية وتحميل الأهل ما لا طاقة لهم عليه. فالتعامل مع ذوي الإعاقة ولا سيما الأطفال وكبار السن يحتاج إلى فريق من المتخصّصين، يساعد الأطفال في تمرير مرحلة الطفولة للاندماج في المجتمع، والاعتناء الصحيح بكبار السن، عدا الأكلاف الكبيرة للرعاية.
عجز في الموازنة
لا تغطي مخصّصات الجمعيات من الوزارة أكثر من 10% من النفقات، ما جعلها تتخبّط خلال وضع موازنة العام المقبل. تتحدّث رئيسة الجمعية اللبنانية للتوحّد أروى حلاوي عن “عجز كبير في مشروع موازنة العام المقبل لا نستطيع سداده، فـ40% من الأطفال لدينا فقط يدفع أهاليهم الرسوم فيما 60% منهم على نفقة الوزارة التي تعطينا الفتات”. هذا ما يهدّد الجمعية بالإقفال، ويهدّد الأطفال المصابين بطيف التوحّد بالانقطاع عن برنامجهم “ما يؤدي إلى تراجع قدراتهم وخسارة المهارات المكتسبة، وهو ما لمسناه خلال فترة التعليم عن بعد جرّاء جائحة كورونا”.
“لا أدري ماذا أقول لكم”، ردّت رئيسة مؤسسة “الأب روبرتس للصم والبكم” باتريس مسلم بخجل على سؤال الموظفين: “ماذا عن العام المقبل؟”. هذا العام “قلّصنا عدد الطلاب في القسم الداخلي”، تقول مسلم وتبرّئ نفسها “مش أنا طلعتهم، بل الأزمة”.
لا تغطي مخصّصات الجمعيات من الوزارة أكثر من 10% من النفقات
وتضيف: “اقتصرنا على ثلاثة أيام من التعليم، وتخلينا عن الكثير من النشاطات وقدّمنا خدمات ناقصة”. لكنّ الارتباط مع متخصّصين للعام المقبل هو “تحدّ كبير”، فكلفة تعليم ذوي الإعاقة بما تشمله من مجالات تربوية وحسية حركية ولغوية ونفسية تساوي عشرة أضعاف كلفة تعليم الأطفال الأسوياء، تكفي فاتورة الكهرباء بحد ذاتها قصة”. إلى جانب تعثّر الجمعيات، يعاني الصُّم من ارتفاع كلفة تصليح أي قطعة صغيرة في السمّاعات، “قد تصل كلفة تغيير الشرائط، مثلاً، إلى ألفي دولار، أما البطاريات فبحد ذاتها كارثة لأنه كلّ يومين يحتاج الأصم إلى تغييرها مقابل 6 دولارات”. لذا، صار البعض يتخلى عن السمّاعة لأيام ريثما يؤمّن كلفة تصليحها وتغيير البطاريات، “وهناك من توسّلني لتصليح سماعته حتى يتمكن من المشاركة في الامتحانات الرسمية”.
خسارة المتخصّصين
يأسف المدير التنفيذي لمراكز التأهيل في مؤسسة “الكفاءات” ربيع سلامة “كيف صرنا نقاتل باللحم الحي لنصمد وندفع رواتب الموظفين بدلاً من التفكير في الرعاية والتأهيل”، مبدياً تخوّفه من “خسارة المتخصّصين الذين علّمناهم في جامعاتنا ودرّبناهم واكتسبوا خبرات عالية”. ويلفت إلى أن أزمة النقل البري أثّرت بشكل كبير على جمعيات ذوي الإعاقة والمعوّقين، بحيث “أُجبرنا على إقفال الأقسام الداخلية نظراً إلى ارتفاع كلفة تشغيلها من جهة، وعجز كثير من الأهالي عن إيصال أولادهم إلى المركز واصطحابهم في نهاية الأسبوع من جهة ثانية. كما تخلّف بعض الأهالي في الأقسام الخارجية أيضاً عن إرسال أولادهم إلى المركز نظراً إلى ارتفاع كلفة النقل”. هل يعني ذلك التوقف كلياً عن التعليم والتأهيل؟ يجيب سلامة: “كلا، يتابعون الدروس عن بعد، علماً أن ذلك لا يحلّ مكان التعليم الحضوري، وأثبت عدم فعاليته بشكل عام، فكيف الحال مع طلاب يحتاجون إلى اهتمام ورعاية خاصيْن؟”
دعم عربي؟
ولأن “الغريب يتعلّق بقشّة”، تعوّل الجمعيات على اللقاء مع مجلس وزراء الشؤون العرب. لكنّ مصدراً في وزارة الشؤون الاجتماعية يشير إلى أن “الدعم العربي، إذا حصل، سيكون لأفكار وبرامج وليس لضمان استمرارية مؤسسة”، لافتاً وبصراحة إلى أنه “ما من أحد في المجتمع الدولي يريد مساعدة المؤسسات بسبب نظرته الخاصة إليها، أنها تحجز حرية المعوّقين وتؤثر في عقولهم”. بغضّ النظر عن نوايا المجتمع العربي والدولي، يجب أن تبقى البوصلة في اتجاه “الدولة” المسؤولة أولاً وأخيراً عن دعم مؤسسات وجمعيات ذوي الإعاقة وتسوية أوضاع هذه الفئة المهمّشة.
عبد الله أحمد: لا أحد يريد المساعدة
يؤكّد المدير العام لوزارة الشؤون الاجتماعية عبد الله أحمد أنه «ما من أحد من المعنيّين ينوي مساعدة المعوقين». يظهر ذلك من خلال «عدم الجدية في النقاش وردات فعل لا ترتقي لمستوى الأزمة».
ورداً على سؤال عن كيفية تصرّف السلطة السياسية وحاكم مصرف لبنان إزاء هذا الواقع؟، يجيب:
أولاً، أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً يمنح بموجبه الجمعيات 40% من مستحقاتها التي جرى تحويلها عن عام 2021. إلا أنّ هذا التعميم ترافق مع عراقيل وضعتها المصارف في طريق الجمعيات، أدّت في النتيجة إلى عدم تطبيقه.
ثانياً، تستمرّ وزارة المالية في تطبيق إجراءات روتينية «بلا طعمة» قبل إنجاز الفواتير التي تستغرق سنة لتُصرف، من دون السماح بتقديم وزارة الشؤون فواتير الفصل الثاني قبل صرف فواتير الفصل الذي سبق. لذلك حوّلت آخر فاتورة عن الفصل الرابع من عام 2020.
يشير أحمد إلى «اقتراح قدّمته وزارة الشؤون إلى وزارة المالية يقضي بمنح المؤسسات سلفة 60% من البدلات عن عملهم المنجز قبل إنهاء كل الفواتير، ومع أننا حصلنا على موافقة هيئة التفتيش والاستشارات، لم توافق الإدارات المعنية».
كما أنجزت «الشؤون» دراسة مالية جديدة لمستحقات مؤسسات ذوي الإعاقة المتعاقدة معها تراعي الأزمة الاقتصادية وما يترتب عليها من زيادة نفقات المؤسسات، وبيّنت ضرورة زيادة بدلات الإقامة ثلاثة أضعاف (البدل لا يزال يساوي 7 آلاف ليرة يومياً). بحسب أحمد، «أرسلنا كتاباً إلى وزارة المالية قبل آخر جلسة لمجلس الوزراء وطلبنا، بناءً على الدراسة، زيادة 40 مليار ليرة على مخصصات الجمعيات التي تبلغ 65 ملياراً، وهو رقم ليس كبيراً، لكنه بقي في الأدراج ولم يُعرض في الجلسة».
تتمركز المؤسسات والجمعيات التي تُعنى بالمعوقين بشكل أساسي في بيروت وجبل لبنان، في حين يُحرم المعوقون في باقي المحافظات، والذين يسكنون في الأطراف من مؤسسة قريبة جغرافيّاً. في هذا الصدد، يشجّع أحمد الجمعيات على تعزيز حضورها في المناطق «بما ينعكس إيجاباً على المعوقين فيساعد في دمجهم اجتماعياً لأنه يسمح بالتواصل أكثر مع العائلة، ويخفّف الأكلاف على الجمعيات نظراً لتراجع أسعار الإيجارات في الأطراف وتخفيف أعباء المواصلات التي تقع عليهم في أغلب الأحيان».