لا خلاف على الحلول.. وإنما على أولويات الإصلاحات!
كتبت باتريسيا جلاد في “نداء الوطن”:
توصيف الأزمات المالية والنقدية والإقتصادية… التي نتخبّط في قعرها لم تعد محط جدل وتباين. فجوهر الحلول لا خلاف حوله، وباتت النقاط الأساسية معروفة ومعمّمة، خصوصاً بعدما حدّد صندوق النقد الدولي الإصلاحات التي يجب الشروع بها للتوقيع على الإتفاق الذي حصل «على مستوى الموظفين» مع السلطات اللبنانية. لكن النقطة الأبرز من أين نبدأ طالما الطبقة الحاكمة هي نفسها التي تتخبّط في خلافاتها السياسية؟
طرح صندوق النقد الدولي جملة من النقاط الأساسية لسير السلطات اللبنانية على سكة الإصلاحات وبالتالي بدء التمويل الخارجي المحدد من الصندوق بـ3 مليارات دولار لفترة 4 سنوات، منها اعادة هيكلة المصارف، إقرار الموازنة، اقرار مشروع قانون الـ»كابيتال كونترول»، توحيد سعر صرف الليرة إزاء الدولار، تعديل قوانين السرية المصرفية، إعادة هيكلة الدين…
وكان سبق لدول عربية عدة في المنطقة أن تعاونت ولا تزال مع صندوق النقد الدولي مثل الأردن ومصر وتونس وغيرها قبل الوصول الى مرحلة الإرتطام الكبير الذي وصل لبنان الى حافته. من هنا ومن وجهة نظر الرئيس السابق لاتحاد المصارف العربية ورئيس جمعية مصارف البحرين د. عدنان أحمد يوسف لا بد من اعتماد أولويات في العملية الإصلاحية للخروج من الأزمة في لبنان.
قبل الشروع في تفاصيل تلك الأوليات، أوضح يوسف لـ»نداء الوطن» أن «أزمة لبنان الاقتصادية كما يتفق الكثير من الخبراء الذين أصدروا دراسات عدة حول
الموضوع، في جوهرها أزمة حوكمة وخلافات سياسية وبنيوية أثرت على مجمل النشاط الاقتصادي».
مظاهر الأزمة
واعتبر أنه مع مرور الوقت، «أدّت الزيادة الكبيرة في الدين، بصورة حتمية، إلى ارتفاع متزايد في مجال خدمته، كما جعلت الاحتياجات التمويلية السنوية الضخمة في البلاد عرضة إلى التأثُّر بالصدمات الخارجية والإقليمية. فمع تباطؤ التدفقات المالية الخارجية إلى لبنان وتراجع النشاط الداخلي ولا سيما السياحة، اضطُرّ مصرف لبنان إلى بذل جهود باهظة التكلفة من أجل استقطابها وفي نهاية المطاف، ثبُت أن هذه السياسة المالية غير مستدامة، مما أفقد الثقة كليا بالعملة وقاد إلى تضخم غير مسبوق نتيجة الاعتماد الكبير للاقتصاد اللبناني على المستوردات من الخارج».
وبذلك يرى «أننا اليوم أمام مظاهر عدة للأزمة:
الأولى، أزمة في ميزان المدفوعات والعملة، حيث يتوقع أن تصل الفجوة بين عرض الدولار الأميركي والطلب عليه إلى 8 مليارات دولار في العام 2020. وفي حال عدم ردم هذه الفجوة، يقول يوسف إن الاقتصاد اللبناني سيواجه صعوبة في سداد الدين الخارجي؛ ونقصاً في السلع المستوردة؛ وتراجعاً في قيمة الليرة اللبنانية؛ وانكماشاً اقتصادياً.
الأزمة الثانية هي تلك التي لها علاقة في المالية العامة. اذ أنه بعد بلوغ العجز نسبة 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019، بدأت الإيرادات الحكومية حالياً بالانهيار تحت وطأة الركود والأزمة المصرفية. كما يتهاوى الإنفاق المعدّل الحقيقي اي الانفاق المحسوب بعد التضخم.
وأضاف: نتوقّع أن تكون البلاد أمام عجز أساسي يصل إلى 3 مليارات دولار (باستثناء مدفوعات الفوائد) في العام 2020. وفي ظل الوضع الراهن، سيصعب تمويل هذا العجز».
وبالنسبة الى الأزمة الثالثة، وهي تلك المتعلقة بالنظام المصرفي اللبناني، أشار يوسف الى أن «القطاع المصرفي يستثمر نصف موجوداته تقريباً في الديون السيادية اللبنانية، بما في ذلك مصرف لبنان، وربعاً آخر في قروض القطاع الخاص محفوفة بالمخاطر».
ولفت الى أن «المصارف تعاني فعلياً من عدم الملاءة والشحّ في السيولة، رغم الإجراءات غير الفعالة التي وُضِعت أخيراً لتقييد حركة الأموال والتعاملات المصرفية، اذ تشهد المصارف إقداماً كثيفا على سحب الودائع. وفي ظلّ تجارب عالمية مشابهة، يُقدم المصرف المركزي عادةً على التدخّل وتزويد المصارف بالسيولة الضرورية. بيد أن مصرف لبنان يجد نفسه مقيّداً باحتياطيات محدودة من الدولار الأميركي، وكذلك بسبب مخاوف من فائض في السيولة بالليرة اللبنانية من شأنه إضعاف العملة المحلية أكثر».
الشروع في الإصلاحات
وحول الأولوية في البدء بالإصلاحات، شدّد يوسف على ضرورة الشروع في عملية إصلاحية مالية ذات صدقية، اذ ينبغي إحداث تحوّل في الإنفاق العام، الأمر غير المتوفّر حالياً ويتّسم بالهدر وعرضة إلى التأثُّر بالفساد.
الى ذلك تبرز الحاجة إلى إصلاح واسع لإيرادات الدولة من شأنه التركيز بدرجة أقل على رفع الضرائب والتطرّق بصورة أكبر إلى معالجة ضعف التحصيل والاعتماد المفرط على قطاعات محددة.
وبالنسبة الى الحلول لايفاء ديون القطاع الخاص الذي يواجه أزمة حادة، رأى يوسف أنه «من المفيد أن تُعقد طاولة مستديرة تضم الدائنين والمدينين للاتفاق على خطوات الإغاثة المالية التي تهدف إلى صون الشركات القابلة للصمود وتصفية تلك المتعثّرة بشكل منظّم».
ويوصي بـ»إقرار سريع لمسودة مشروع قانون بشأن إفلاس الشركات وإعادة هيكلتها، كما معالجة الميزانية العامة لمصرف لبنان وديونه للحكومة وخاصة زيادة
احتياطياته من خلال الدعم الاقليمي والدولي واستعادة سلامة القطاع المصرفي كشرط مسبق لتنشيط الاقتصاد».
إعادة هيكلة الدين
ويلفت الى أن «إعادة هيكلة الدين العام وارتفاع قيمة القروض المتعثّرة قد يؤديان إلى انعدام ملاءة العديد من المصارف. وما يزيد الأمور تعقيداً أن المصارف منكشفة إلى حد كبير على مصرف لبنان الذي انخفضت ميزانيته العمومية».
الى تلك النقاط المذكورة آنفاً، راى أنه «لا بدّ من إعادة النظر في مزيج سعر الصرف/السياسة النقدية، حيث تسبّب تثبيت سعر الصرف وتحديده بأعلى من قيمته الفعلية إلى حدّ كبير بحدوث عجوزات كبيرة في الحساب الجاري، وألحق الضرر بالقطاعات الموجّهة للتصدير، وأجبر مصرف لبنان على المحافظة على معدلات فائدة مرتفعة».
سعر صرف أكثر مرونة
من هنا، تبقى في المرحلة المقبلة، توصية الخبراء بحسب يوسف «أن تكون سياسة سعر الصرف أكثر مرونة وتتركز حول ليرة أضعف. لكن، إلى أن تعود الثقة بالليرة اللبنانية، سيكون من الخطر السماح بتعويم العملة. لذا سيتعيّن الحفاظ على شكل من أشكال إدارة العملة على المدى المتوسط». أما العبرة أو التحدي الأكبر فيبرز في بدء الحكومة الحالية بالإصلاحات، وإنجازها من قبل الحكومة المقبلة إن تمّ تعيينها خلال فترة زمنية قصيرة؟