التّعليم للميسورين فقط… ومُعلّمون فقراء!
كتب نعمة نعمة في “الأخبار”:
تحوّلت المدارس الخاصة إلى فضاء لتكريس التفاوتات واللاعدالة، بحيث ابتعدت عن تحقيق أهداف التعليم لجهة تكوين قيادات شابة جديدة مشاركة فعلياً في إعادة صياغة تعليم ذي جودة أو وطن. يسير لبنان في مسار انحداري، ويعيد تدوير الأنظمة السياسية والاجتماعية المشوّهة أصلاً، ولا يُنتج كفاءات بل حملة شهادات، فيما تفوُّق بعض الأفراد يعود بمعظمه إلى جهود العائلات ومبادرات التلامذة الفردية.
الفلتان التشريعي المتعمّد والفساد وسطوة مصالح المدارس الخاصة على وزارة التربية وإضرابات المعلّمين بسبب تدني الأجور وانخفاض مستويات دخل المواطن، كلها عوامل باتت تؤثر على نُظم التعليم الحالية والمستقبلية.
لا يمكن طبعاً إغفال دور القطاع الخاص في الحفاظ على مستوى جودة تعليم مقبولة خلال العقدين الأخيرين، والذي حقّقه بالتوافق مع غالبية الوزراء المتعاقبين من خلال تعزيز التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي (ما عدا الاستثناء). فالاستنتاجات التي يخلص إليها أيّ مراقب مغايرة للتقارير الرسمية، إذ تلاحظ الثغر والفروق في التحصيل العلمي بين مدرسة وأخرى، ومنطقة وأخرى، وبين مدارس التعليم الخاص نفسها وبين مدارس التعليم الرسمي كذلك، وفي نسب فقر التعلّم (59% قبل الجائحة و70% بعدها). وفي المجمل، يواجه الأطفال الفقراء عوائق لا يستطيعون التغلب عليها، في حين أن مؤشرات الاكتساب العالمية لم تتحقق لأكثر من ثلث التلامذة في لبنان (البنك الدولي، 2015) مترافقة مع نسب تسرّب كبيرة جداً وغير معلنة.
ولا شكّ أنّ غياب التقييم والرؤى والخطط والأهداف والغايات لدى الحكومات المتعاقبة قد ساهم في انحدار التعليم وعزّز فرص الخاص بديلاً عن الرسمي، ووفّر للطبقات الميسورة تعليماً متقدّماً حديثاً ومعاصراً أو عقائدياً، نشهد انتشاره وتوسّعه، بينما لا يحظى التعليم الرسمي بالدعم الكافي ومناهجه غير متكيّفة مع متطلّبات العصر، ومخرجاته لا تلبي احتياجات العمل والسوق، ما قد يؤثر سلباً في إمكان توفير فرص تحسين ظروف الحياة للفئات الاجتماعية الضعيفة. في المقابل، يظهر دعم غير محدود وتشريعي للقطاع الخاص من خلال تمرير قوانين مثل مساعدة 350 ملياراً للمدارس الخاصة والهوية التربوية، في وقت تصرّح فيه اليونسكو (2015) “أن خصخصة التعليم تشكل عاملاً مؤثراً وتكتنف مخاطر على التماسك الاجتماعي والتضامن”.
ويظهر أثر التراجع لمصلحة القطاع الخاص جلياً في حجم التمويلات المخصّصة للتعليم الحكومي، بحيث لم يتجاوز 2.6% من الموازنة العامة بين عامَي 2000 و2016 بينما تنادي اليونسكو برفع الإنفاق إلى 8-10%. وكان التعليم الخاص قد تنامى بشكل كبير في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، وصار اليوم يضمّ أكثر من 70% من أعداد المتعلّمين المقيمين. وفي السنوات العشرين الأخيرة، ارتفع عدد المدارس الخاصة إلى نحو 200 مدرسة خاصة (العدد الإجمالي 1600 مدرسة خاصة مقابل 1100 مدرسة حكومية) مقابل تدهور الجودة في التعليم الرسمي.
موازنة وزارة التربية لعام 2018 توازي ملياراً و350 مليون دولار، ضمنها أجور ورواتب موظفي الإدارة والإيجارات والمنح التعليمية والمدارس الخاصة المجانية..، في المقابل يدفع الأهالي أقساطاً في التعليم الخاص ضعف هذا المبلغ.
مستوى التعليم يستمرّ في الانحدار، رغم الدعم التقني والمالي من المؤسّسات الدولية ويتساءل مراقبون إذا ما كان هذا الإصرار على تكرار أنماط العمل نفسها التي أدّت إلى هذا الفشل يستوجب مكافآت مستمرّة من الجهات المموّلة والداعمة مالياً وتقنياً لإعادة إنتاج الفشل نفسه؟
نشهد اليوم أزمات لم يُشهد لها مثيل، وتدفع أفواجاً من المعلمين ذوي الكفاءة إلى البحث عن خيارات لتحسين وضعهم الاجتماعي في أماكن أخرى، لانعدام الأفق هنا، وتدنّي قيمة الدخل في السنتين الماضيتين، فأصبح المعلمون فقراء، وتحطّمت صورتهم الاجتماعية. أما المتعلّمون فيفقدون الحوافز النفسية والمادية للتعلّم.
بالمقابل، تتزايد نسب المحرومين من التعليم لأسباب منها الفقر، والإعاقة…، وقد أشارت منظمة تُعنى في هذا المجال، إلى عدد ناهز 739 ألف طفل لم يلتحقوا بالمدرسة في عام 2021، وهو رقم كبير جداً موزّع بين التلامذة اللبنانيين والسوريين. كما تخشى اليونسكو أن تتزايد النسب نتيجة إغلاق المدارس والفاقد التعليمي المتزايد بسبب جائحة كورونا.
وكما هو معلوم لم تُنشئ الدولة حضانات ورياض أطفال بالعدد الكافي في التعليم الرسمي، واعتمدت على الرعاية العائلية التقليدية لدى العائلات المتدنية الدخل، بينما العائلات الميسورة التي تلجأ إلى القطاع التعليمي الخاص يتقدّم أطفالها بسرعة أكبر ما يؤدي إلى تفاوت بين الطبقات الميسورة والفقيرة والأرياف التي تفتقر إلى الروضات.
لا يكتمل التعليم من دون توفير برامج رعائية تقلّص التفاوتات بين الفئات الضعيفة والفئات الأخرى، وواجب الدولة توفير وتطبيق معايير دنيا لتقليص الفروق، إذ نشهد مجدداً حالات إنهاك وإرهاق لدى الأطفال في المدارس بسبب فقر التغذية أو العمل، والمُعوَّقون متروكون خارج المدرسة لقلة التجهيز أو عدم ملاءمة المناهج أو التسرّب.
لا يمكن حصر العدالة في التعليم في العملية التعليمية فقط في الوقت الذي تغيب فيه شروط التكافؤ والبنية التحتية لقيام مدرسة وطنية جامعة، وفي الوقت الذي تتعامل فيه الحكومة مع الجهات المانحة كمورد بالفريش دولار أو كروزنامة لتفعيل عمل المستشارين مع إبعاد مفتعل للخبرات الأكاديمية والتربوية الوطنية الوازنة لقراءة واقعنا ووضع الخطط لترميم البنية التأسيسية للتعليم وإعادة انتظامه. فالمنهاج الجديد الذي تنكبّ عليه الوزارة والمركز التربوي اليوم ما هو إلا إعادة إنتاج لما هو مستحيل تطبيقه في ظل الأزمات التي تتغاضى الوزارة عن قراءة مؤشراتها، منهاج حتى لو كان من ذهب (وهو ليس كذلك) سيقودنا إلى مزيد من الانحدار واللاعدالة لعشرين سنة مقبلة، تنتجه أيادٍ لم تقرأ الواقع إلا من خلال أعين السائح المتفرّج التقني الذي لم يقرأ أرقاماً ومؤشرات وتقارير، ولم يرَ بأمّ العين ولم يستكشف الوقائع إلا من خلال نظّارته الشمسية المستورَدة.