في عيدِكَ… هل تقبلُ منّا الاعتذار؟
كتب أمين عام المدارس الانجيلية نبيل قسطه في “النهار”:
أخي المعلّم، أختي المعلّمة، لقد فَرغَتْ جيوبي إلّا مِن مبلغٍ بسيطٍ اشتَريْتُ بِه بطاقة معايدة أقدّمها إليكَ لمناسبة #عيد المعلّم، فعُذراً على التفاتَـتي المتواضِعةِ التي اقتَصَرت على بطاقةٍ مِنْ دونِ هديّةٍ.
على أيِّ حالٍ اقْـبَـلْها منّي، وفيها بضعةُ سطورٍ وباقة كلمات قطـفـتُها مِنْ عمقِ صَميمي، وتأكّـدْ أنّها نقـيّةٌ صافيةٌ تُشبهُ نقاءَ فـكرِكَ وصفاءَ قَلبِك أيُّها المعلّم، ولعلّ في بساطتها كلّ الحقيقة التي لم تَعُدْ خافيةً على أحد.
كلُّنا نَعْلَـمُ عزيزي المعلّم أنّك لم تَـعُـدْ تـهتـمّ لأيّ كلامٍ، فـقـد شَبِعْـتَ منه إلى حدّ التّخمةِ، وربّما صرتَ تـتقـيّأُ الوعودَ والتصريحاتِ والكلامَ المُنَمَّقَ…
نَعْلَمُ أنّكَ تريدُ خبزاً ودواءً، قوتاً وعلاجاً، وتريدُ القـليلَ من البسيطِ الذي يحـفـظ كرامتك ويبقيك على قيد الحياة…
ونَعْلَمُ أنَّـك سيّـدُ المتـقشّفين ومن بين الأوائل تحتَ خطّ الفقر. ولأنّ جميعَهُم يعرفونَ مَن أنت، فإنّني لنْ ألقيَ فيكَ قصائدَ وَخطباً، ولن أبيعَـك كلاماً ينتهي مفعولُه مع غيابِ شمسِ التاسعِ من آذار…
لا يا عزيزي، فـزمَنُ الكلامِ الهباءِ ولّى، وزمَنُ الديماغوجيّة انتهى إلى غير رجعة… لذا دعني أقُلْ لكَ اليومَ كلاماً مُختلفاً… إنّه كلامُ رَجُلٍ يَسْكُنُ وجَعَكَ، يُقاسِمُكَ الألمَ، رَجُلٍ قريبٍ منكَ يعرِفُ حقيقةَ جوهرِكَ، ويُدرِكُ كَمْ أنتَ كبيرٌ وعظيمٌ وقويٌّ بما تملِكُ في داخلِكِ لا بما يتوافَرُ لك…
أخي المعلّم، أختي المعلّمة، بلْ زميلي وزميلتي، بلْ رفيقي ورفيقتي في النّضالِ التربويّ، يا أيّها المعلّم في لبنان!
إن كان للظلمِ عنوانٌ، فأنتَ أكثَرُ المظلومينَ وأنتَ العُنوانُ.
إن كان للقهرِ مثالٌ، فأنتَ أكثَرُ المقهورينَ، وأنتَ المثال.
وكأنَّ قَـدَرَ كُلِّ مَن نالَ لَـقَبَ “مُعلّم” مُنذُ سقراط، مروراً بكبارٍ خَلَّدَهُمُ التاريخ، وصولاً إليك، أنْ يعيشَ مظلوماً… مع مُفارقةٍ عريضةٍ قد تكونُ هَديّةَ عيدِكَ وهي أنّكَ تَقْبَلُ ظُلْمَ الآخرينَ ولا تبادِلُهم الظُلْمَ… وأنَّكَ لا تُقابلُ الحرمانَ بالحرمانِ؛ لذا ارتَضَيْتَ أنْ تكونَ في المدرسةِ ولو محروماً، رافِضاً أن يَبقى تلاميذُكَ في بيوتِهم مَحرومين من حقِّهِم في التعلُّمِ والتثقُّفِ والتّربيةِ… هكذا أبداً يتصرّفُ الكبارُ، وبهذا يتميّزون…
نَعَمْ، كبيرٌ أنتَ يا مُعلّمَ لبنان… ومهما قهروك بأساليب حياتِك ومقوّماتِ حياتِك… ومهما حرموكَ وظلموك، تبقى أنتَ الأقوى والأنبَل… ومقابلَ القليل القليل الّذي يُقدَّمُ إليكَ، تُقَدِّمُ الكثيرَ الكثيرَ… تُطالبُ بحقٍّ ولا تَطْلُبُ حسنةً…
صديقي معلّمَ لبنان، اعْلَم في يومِ عيدِكَ وفي كلِّ يومٍ، أنَّ كُلَّ الأيّامِ هي لكَ، هيَ مجالُكَ وميدانُكَ، فَامْلَأْها كِبَراً… وأفِضْ عليها عِزَّةً وكرامةً وإباءً منكَ يا عزيزي، واعلم أنَّ جُهْدَكَ مُثَمَّنٌ ومُقَدَّرٌ من كثيرين، كباراً وصغاراً مُجْتَمعاً وأهلاً وتلاميذ…
وكلمةُ حقٍّ تُقالُ، إنَّ رأسَ الهرمِ التربويّ ومُعاونيه هُم أوائلُ المُقدّرين، وها هُم يَصِلونَ لَيْلَهُم بنهارِهِم لِيُتَرْجِموا تَقديرهُم المعنويّ ببدلاتٍ ماديَّةٍ هُم يَعرفونَ جَيِّداً أنّها أقلُّ بكثير ممّا تَستحقّ، ويشعرون بأنّ أمامهم الكثير الكثير لكي يحقّقوه على صعيد استعادةِ حقوقِك… وهذه هي حال إداراتٍ مدرسيَّةٍ عديدة عالِقَة بين صعوبتين؛ أوضاع الأهالي التي تحاكي أوضاع المعلّمين، والخشية على جيلٍ من الضياع… وتأكّد أنَّ الخجلَ يَسْكنُ في نفوسِ آلافِ الآباء والأمّهات، إذْ يعزّ عليهم أن يأتي التاسع من آذار وأنت يا معلّم على هذه الحال، ويؤلمهم أن يأتِيَ عيدُكَ وَهُم لم يُحضروا لكَ هديّة.
صديقي معلّم لبنان، في آخر سطر من هذه البطاقة، أُخاطِبُكَ… وأخاطبُ نفسي وكلّ مسؤولٍ تربويٍّ لأقول: أن يأتيَ العيدُ مرّةً بلا بحبوحةٍ وبغيرِ هديّةٍ، فليسَ هذا هو القضيّة، إنّما القضيّة أَنْ نَصمُدَ لِتَبْقى مَدْرَسَةٌ، ولِيَبْقى تلميذٌ، وتبقى تربيةٌ، ويبقى وطن… وليبقى التاسع من آذار يوماً مختلفاً في روزنامةِ الأيّام، وإلّا فلِمَ المالُ ولِمَنِ الهديّة؟
يا معلّم لبنان، هَلُمَّ نقلب الآية هذا العام، وليكُنْ قَبولُنا بالواقِع المرير صُموداً ولو بصمتِ الكِبَر، كما قبِلَ ذاك المعلّم مهمّة غسلِ الأرجل قبل ألفي سنة… لِيَكون هُوَ الهديّة.