نزيف مالي يهدد بكارثة إضافية
كتب ناصر زيدان في “الأنباء الكويتية”:
بينما سياسة دعم المواد الحياتية الضرورية يفترض أن تساعد الناس المنكوبين من جراء الانهيار الذي يعيشه لبنان، فإذ بها تتحول الى مصدر خطر يهدد بحصول كارثة مالية إضافية، تزيد من المآسي، وتهدد ما تبقى من الاحتياط الإلزامي لودائع اللبنانيين في مصرف لبنان، والمواطنون لا يشعرون بالاستفادة من غالبية هذا الدعم، لأن معظم المواد الغذائية والسلع تباع بأسعار مرتفعة توازيا مع ارتفاع صرف الدولار في السوق.
تشير الأرقام الصادرة عن وزارة الاقتصاد: أن المبالغ المطلوبة لتمويل الاحتياجات الضرورية بالعملة الصعبة للعام 2021 تقدر بـ6.237 مليارات دولار، وهي تشمل مستوردات المواد النفطية وتجهيزات مؤسسة كهرباء لبنان، والأدوية والمواد الغذائية ومصاريف البعثات الديبلوماسية في الخارج، والتحويلات على هذه القطاعات بلغت في العام 2020 ما يزيد عن 7.4 مليارات دولار أميركي.
وهذه المبالغ تصرف بقيمة 1515 ليرة مقابل الدولار الواحد، ويعني هذا أن القيمة الفعلية للمبالغ المدفوعة لمصرف لبنان مقابل فتح اعتمادات بالدولار لا تتجاوز 15% منها، مما يعني أن مصرف لبنان يغطي ما يقارب 5 مليارات دولار من احتياطه الذي انتهى او يكاد وفق ما نقل عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وما تبقى في المصرف هو الاحتياط الإلزامي الذي ينص عليه قانون النقد والتسليف كضمانة للمودعين في البنوك اللبنانية، وإذا ما تم المسّ بهذا الاحتياط، فستكون أكبر عملية سطو على أموال الغير، وسيؤدي الأمر الى كارثة مالية إضافية.
تحولت الدولة اللبنانية التي تعتمد الاقتصاد الحر المتفلت فجأة الى دولة تعتمد نظام مركزي موجه، وهذا النظام لم تتمكن من ضبطه حتى الدول الشيوعية في الماضي، ويترافق تطبيقه في لبنان مع فلتان على الحدود ومع زبائنية تجارية وغوغائية إدارية لا توصف.
وهي حالة لا يمكن تبريرها إلا إذا كان هناك قرار غير معلن بتدمير الدولة بالكامل. وفي هذا التحول من الاقتصاد الحر الى الاقتصاد المركزي المقيد، اعتمدت الوزارات المعنية أسوأ أنواع التدابير، ونفذتها من دون احتساب مخاطرها وانعكاساتها، ومن دون معرفة دقيقة لحاجات السوق اللبناني. ويقول أحد التجار الذي لم يتمكن من الحصول على موافقة لاستيراد مواد لمؤسسته لأنه غير محسوب على الجهات النافذة: إنه باستثناء 135 مليون دولار فقط قيمة القمح، فإن التحويلات لشراء المحروقات والمواد الغذائية خلال سنة، تكفي لدولتين بحجم لبنان، وهو يشك بدخول كل هذه المواد الى الأسواق. بالمقابل فالمواطن يشتري غالبية المواد الاستهلاكية على تسعيرة 15 الف ليرة للدولار.
يقول مصدر واسع الاطلاع على الشؤون المالية والاقتصادية، وسبق له أن أشرف على البطاقة التموينية في العام 1974: أن تسليم بطاقات دعم مؤقتة لمليون عائلة لبنانية بقيمة 200 دولار للبطاقة، كلفتها السنوية لا تزيد عن 2.4 مليار دولار، وهي أقل من نصف المبلغ الذي يخسره مصرف لبنان على الدعم الذي لا يصل الى المواطنين، بل يستفيد منه المهربون والتجار وبعض الأحزاب المهيمنة.
والناس في لبنان مع همومهم في واد، والحكام في واد آخر، ومهاجمة إعلام الممانعة ورموز النظام الأمني السابق لحاكم مصرف لبنان تعطي شهادة له أكثر مما تدينه، والكلام الشعبوي المدمر الذي أطلقه كبار المسؤولين حول «التدقيق الجنائي» عبثي وغير صادق وفيه بحث عن ضحية لتحميلها مسؤولية الانهيار، لأنهم يتحكمون بالدولة بالكامل منذ أكثر من 5 سنوات على الأقل، وكان بإمكانهم إجراء التحقيق في السابق، وهؤلاء أخذوا مكان القضاة عندما أكدوا وقوع «الجناية» قبل التحقيق، بينما هم في طليعة المتهمين عن هدر المال العام كونهم مسؤولين عن صرف ما يزيد عن 50 مليار دولار على الكهرباء.
لبنان أمام خطر شديد إذا ما بقي الاستبداد على ما هو عليه، ذلك أن القيمين على شؤون الدولة هم الذين ينقلونها من انهيار الى انهيار، ويبدو أنهم لا يريدون تشكيل حكومة إنقاذ، كي يستمر الفراغ في المؤسسات، وفي الفراغ الحكومي يمارسون وصاية على كل مرافق الدولة من خلال المجلس الأعلى للدفاع، او من خلال وزراء حكومة تصريف الأعمال الذين يدورون في فلكهم السياسي.