عجائب مجلس النواب: بين “صبّاط” سليم سعادة.. وخروف جميل السيّد
كتبت كريستال خوري في “أساس ميديا”:
يقولها العونيون كما هي: ثلاثة قوى فقط تريد التدقيق الجنائي، وهي “تكتل لبنان القوي”، أي هم، و”كتلة الجمهورية القوية”، أي “القوات”، و”كتلة الوفاء للمقاومة”، أي حزب الله. الإثنان الأولّان قتالهما السياسي معلن وصريح أما الفريق الثالث فيعتمد في دعمه على حساباته مع القوى الأخرى.
ما لا يقولونه يظهر جلياً بين السطور: البقية تلعب لعبة مزايدة لا تريد من خلفها إلا تضييع الشنكاش وتطيير المحاولة الجدية لدخول دهاليز مصرف لبنان.
احتدم النقاش حول مصير التدقيق الجنائي مع خروج شركة “ألفاريز ومارسل” من لبنان نتيجة اصطدامها بواقع السريّة المصرفية التي تحجج بها مصرف لبنان ليقفل خزائنه بوجه مدققي الشركة العالمية، مقابل إصرار الرئاسة الأولى على خلع الأبواب الموصدة وفضح الألغاز التي تختزنها والتي قد تعرّي، وفق العونيين، الكثير من القوى السياسية.
ولهذا، لجأ رئيس الجمهورية ميشال عون إلى آخر الأوراق المتاحة بين يديه، موجهاً رسالته إلى مجلس النواب لوضع الأخير أمام مسؤولياته تجاه الرأي العام، اذ اعتبر عون أنّه “يجب التعاون مع السلطة الإجرائية لتمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والتدقيق ينسحب إلى سائر مرافق الدولة العامة تحقيقاً للإصلاح المنشود وبرامج المساعدات التي يحتاجها لبنان راهناً”.
وفق المنظور القانوني، توجيه الرسالة هو من الحقوق المحفوظة لرئيس الجمهورية بمعزل عن مضمونها، وهي بالنتيجة صلاحية يمكن له استخدامها حين يشاء من باب حثّ مجلس النواب على مناقشة مضمون هذه الرسالة.
وعادة ما يحصل ذلك من خلال آليتين:
– إما يبلغ مجلس النواب بنيته توجيه رسالة مباشرة، ما يعني أن يتوجّه بنفسه إلى البرلمان للقيام بهذه الخطوة، وفق المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس. وحينها يكون أمام رئيس المجلس مهلة ثلاثة أيام لدعوة الهيئة العامة للانعقاد للاستماع إلى رئيس الجمهورية يوجه رسالته بشكل مباشر، على أن ترفع بعد ذلك الجلسة لمدة 24 ساعة ليعود المجلس وينعقد ويناقش مضمون الرسالة، ويتخذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب.
– وإما يوجّه رئيس الجمهورية الرسالة عبر رئاسة مجلس النواب الذي يكون أمام مهلة ثلاثة أيام لدعوة الهيئة العامة للانعقاد ومناقشة الرسالة، وأيضاً ليتخذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب.
في النتيجة، للمجلس كامل الحرية في التصرف بالرسالة، بمعنى رفضها أو الأخذ بها كتوصية أو كرسالة حثّ لاتخاذ قرار معين أو تقديم اقتراح منسجم مع مضمون الرسالة أو تشكيل لجنة أو أي شكل من أشكال التناغم من الرئاسة الأولى. ومن هنا، فإنّ أهمية خطوة رئيس الجمهورية تكمن في وضع السلطة التشريعية أمام مسؤوليتها تجاه الرأي العام من باب لفت النظر لا أكثر.
عملياً، في مسألة التدقيق، كان هناك أربع قوى أساسية تشكل مكوّنات حكومة حسان دياب، وهي “التيار الوطني الحر” و”الثنائي الشيعي” و”تيار المردة”، وهي موجودة أيضاً في مجلس النواب، وتدرك جيدا فحوى الاتفاق الذي وقعته الحكومة مع شركة التدقيق، وتعرف مسبقاً ما هي العوائق والألغام التي تواجه عمل الشركة. وقد تمّت مناقشة مدى القدرة على تجاوز السرية المصرفية بكثير من التوسّع. وبالتالي فإنّ أخذ النقاش إلى مجلس النواب لا يحمل أي إرادة جدية في السير في مجال التدقيق، وإنما هو مجرد محاولة ساذجة لملء الوقت الضائع بتجاذبات لم تعد تنطلِ على الرأي العام.
ومن تسنى له الاستماع إلى مداخلات النواب خلال الجلسة، لتأكد أنّها ليست سوى حفلة مزايدة لا تطعم ولا تسمن. وها هو النائب سمير الجسر، ممثلاً “كتلة المستقبل” يتحدث عن أنّ “التدقيق الجنائي لا يبدأ إلا بعد انتهاء التحقيق العادي من مهمته وهو يتتبع مسار الخطأ ليصل الى ربطه بجرم جزائي إذا توفر”… وكأنّ “جرم” سرقة أموال المودعين والهدر بمليارات الدولارات، وضياع 100 مليار دولار من أموال المودعين، يحتاج إلى “تحقيق عادي” لكي يثبت لكتلة المستقبل حصول جريمة تستدعي تحقيقاً جنائياً.
كلّ ما تقوم به القوى السياسية هو تقاذف كرة المسؤولية. ولو أن ثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتق مجلس النواب فيما لو توافرت الارادة الجدية لتخطي حاجز السرية المصرفية، إلا أنّ الكتل النيابية المتناحرة تحاول تكبير حجر القضية من خلال المطالبة بتعميم قاعدة التحقيق لتشمل كافة القطاعات (وأهمها الكهرباء) وذلك من باب إفشال هذا المشروع وليس إنجاحه وتعميمه، على قاعدة: “كبّر الحجر.. حتّى ما يصيب”.
ومع ذلك، خرج مجلس النواب من جلسته التشريعية بعد إقرار توصية تنصّ على إخضاع مصرف لبنان للتدقيق الجنائي مع كافة مرافق الدولة. لكن ماذا يعني ذلك؟ خصوصاً وأن بعض النواب تحدث عن الحاجة إلى اقرار قوانين لترجمة القرار؟
يقول بعض النواب إنّ معظم الكتل السياسية تحدثت خلال جلسة الاستماع الى الرسالة، عن عدم الحاجة إلى تعديل قانون السرية المصرفية كي يتسنّى إخضاع مؤسسات الدولة وبينها مصرف لبنان للتدقيق الجنائي. ولهذا جرى إقرار التوصية من دون مناقشة الاقتراحين المقدمين في هذا الشأن.
يشير أحد النواب العونيين إلى أنّ لهذه التوصية قوة تحفيز من شأنها أن تدعم وجهة النظر التي تفتي بإمكانية حصول التدقيق بشكل تلقائي من دون الحاجة الى تعديل قانون السرية المصرفية، ما يعني انضمام مجلس النواب برمته إلى موقف رئيس الجمهورية في هذا الشأن. وبالتالي لم يعد اعتراض مصرف لبنان مبرَّراً وبات محرجاً أمام الرأي العام بعد انضمام السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية. لكن هل سيبدّل رياض سلامة رأيه ويقدم المستندات؟ لا جواب حاسماً.
هل هذا يعني أنّه سيصار الى استدعاء “ألفاريز ومارسال” من جديد؟ كذلك، لا جواب لدى النواب لأنها مهمة وزارة المال!
على الهامش، من المفيد الإضاءة على مداخلتين فيهما الكثير من السخرية المعبّرة عن حال البلد، وحال نوابه. يصف النائب سليم سعادة حاكم مصرف لبنان بـ”الموظف الصباط” بعد مطالعة علمية دقيقة عن أهمية التدقيق الجنائي في كشف الاحتيال سواء في المستندات أو في الحسابات، فيما يروي النائب جميل السيد حكاية الحريق الذي شبّ في الغابة فتصارعت الحيوانات في بحثها عن مفتعل الحريق، واذ بالاعترافات تنتهي عند الخروف، الذي اكتفى بالقول إنّه يقتات من العشب… فإذ بوحوش الغابة تحمله مسؤولية افتعال الحريق!
أمس كان مجلس النواب ساحة تبادل الحيل لعدم فعل شيء حيال المجزرة المالية والاقتصادية التي نعيشها، والتي بات المجتمع الدولي يربط المساعدة على تجاوزها بالتدقيق الجنائي. ولعلّ “الخروف” هو الناخب – المواطن الذي سيدفع الثمن وحيداً، فيما النواب لم يروا دليلاً جرمياً بعد، بحسب تصريح النائب المستقبلي سمير الجسر.