كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
لا شيء يضمن أن تكون الهدنة الحالية في قطاع غزة مدخلاً إلى التسوية السياسية. والأرجح أنّ رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو هو اليوم في صدد خديعة تهدف إلى كسب الوقت لا أكثر.
في الأعوام 2017- 2020، ماطل الإيرانيون في مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة، ولم يرغبوا في إنجاز اتفاق مع واشنطن، ما دامت تحت قيادة دونالد ترامب «الجمهوري»، وانتظروا وصول «الديموقراطي» جو بايدن، النسخة المنقّحة عن باراك أوباما، وهذا ما حصل.
في ثوابت نهج بايدن إبرام اتفاق جديد مع طهران، أو تجديد اتفاق فيينا 2015، على رغم من أنّ إسرائيل بذلت جهوداً سياسية قوية لإقناع إدارته بعدم تقديم التنازلات السهلة للإيرانيين. ومع مطلع العام الفائت، كادت المفاوضات حول النووي الإيراني تنتهي باتفاق، وتمّ وضع اللمسات الأخيرة عليه، لكن انفجار الحرب في أوكرانيا أعاد خلط الأوراق، وجمّد الجانب الإيراني هذه الخطوة إلى أجل غير مسمّى.
اليوم، يفعل نتنياهو مع إدارة بايدن ما فعله الإيرانيون مع إدارة ترامب: فلنترك للوقت أن يلعب لعبته، ويتبدّل سيّد البيت الأبيض. وحينذاك تتحقق معادلة جديدة للقوى في الشرق الأوسط تستفيد منها إسرائيل.
يدرك نتنياهو أنّ بايدن لا يشبهه، وأنّه سيتصادم معه في المشروع المرسوم لغزة، مهما حاول الطرفان تجميل الأمور. فالرئيس الأميركي يرفض «الحرب من أجل الحرب» التي يشنّها نتنياهو على غزة، والتي أزهقت أعداداً هائلة من أرواح المدنيين، وتكاد تحوّل القطاع مساحة منكوبة يصعب جداً إعمارها مجدداً. وهو لذلك حاول التعويض بالمبالغة في إظهار الدعم العسكري والحماية الوثيقة لإسرائيل. لكن إدارته أعلنت في وضوح أنّها لا تتحمّل تغطية الاستمرار في تدمير غزة. وهذا الموقف لا يستسيغه العقل اليميني والعسكري في إسرائيل.
لذلك، هناك دلائل إلى أنّ نتنياهو يمارس اليوم لعبة إضاعة الوقت بين حرب الاستنزاف والإيحاء بالهدنة وتبادل الأسرى والتفاوض السياسي. وسيحافظ على هذه الوضعية الملتبسة حتى مرور عام كامل، تستنفد خلاله ولاية بايدن.
ومع أنّ من المبكر جداً تقدير من هو الآتي بعد بايدن، فإنّ الأجواء في واشنطن تؤشر إلى أنّ المعركة الرئاسية ستنحصر مجدداً بين بايدن وترامب، وأنّ حظوظ الثاني ليست ضعيفة. وإذا ما نجح ترامب في العودة إلى البيت الأبيض، فسيبدأ من حيث انتهت ولايته السابقة، خصوصاً في الشرق الأوسط.
وفي اعتقاد بعض الخبراء أنّ نتنياهو يتعمّد اليوم إدخال غزة في وضعية من الإرباك بين الهدنة والاستنزاف والتفاوض، للحدّ من الضغوط الأميركية والأوروبية التي يتعرّض لها. وهو يستفيد من الفرصة السانحة لتقسيط إطلاق الرهائن، على دفعات متباعدة، ليتمكن من التقاط الأنفاس في غزة، لكنه سيمنع في شكل جازم أي محاولة لعودة الأهالي إلى القسم الشمالي من القطاع، لأنّ المطلوب هو الاستمرار في الضغط عليهم وحشرهم جنوباً، ثم دفعهم إلى الخروج من القطاع عبر رفح إلى شبه جزيرة سيناء، في موازاة خطة أخرى جرى إعدادها للضفة الغربية.
سيستثمر نتنياهو هذه الفترة الطويلة من المراوحة العسكرية والمماطلة السياسية حتى نهايات العام المقبل، من أجل تحقيق 3 أهداف أساسية:
1- تهجير أكبر عدد ممكن من السكان وتدمير أجزاء واسعة من القطاع.
2- انتهاء ولاية بايدن واحتمال عودة ترامب، صديق نتنياهو وصانع «صفقة القرن».
3- نضوج مناخ التسويات السياسية وفق ما يريده العقل اليميني والعسكري في إسرائيل.
فترامب استطاع أن يقدّم لإسرائيل، خلال فترة رئاسته، إنجازات تاريخية جرت برمجتها في المشروع الذي تولّى إعداده المعاونون الأقرب إلى إسرائيل، أي «صفقة القرن»، وهو يتضمن اعتماد القدس عاصمة لإسرائيل، وإنهاء القضية الفلسطينية بإقامة كيانين فلسطينيين، أحدهما يضمّ غزة وجزءاً من سيناء والثاني يضّم الضفة الغربية إلى الأردن. وفوق ذلك، تمكّن ترامب خلال ولايته من توسيع دائرة ما سُمّي الاتفاقات الإبراهيمية، أي التطبيع بين مزيد من الدول العربية وإسرائيل.
هذا الإصرار من جانب نتنياهو على رحيل بايدن والرهان على ترامب سيكون من سوء حظ الشرق الأوسط الذي اعتاد أن يتولّى «الكاوبوي» الأميركي إدارة شؤونه وتقرير مصير كياناته وشعوبه. وليس مضموناً أن يتعرّض نتنياهو نفسه لضغوط سياسية داخلية تؤدي إلى إسقاط حكومته، كما يتمنّى خصومه في إسرائيل وخارجها.
وستعني وضعية المراوحة والاستنزاف في غزة مراوحة واستنزافاً في كل الجبهات الرديفة، من لبنان إلى سوريا فالعراق فاليمن، وسيعني القلق في مصر والأردن، والإرباك في دول الخليج العربي. أي إنّ هذا الوضع سيجعل العالم العربي كله في وضعية مضطربة.
المصدر: Al Joumhouria | الجمهورية