لبنان

الشغور الرئاسي والواقع المسيحيّ… وعلامات استفهام تُطرح

كتبت بولا أسطيح في “الشرق الأوسط”: 

أثار تعليق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على تقرير، قيل إن البطريركية المارونية قد تلقته عن أعداد المسيحيين في لبنان، موجة من ردود الفعل، في ظل خشية من تداعيات الفراغ في الموقع المسيحي الأول في البلاد، أي منصب رئيس الجمهورية.

ورغم أن اتفاق «الطائف» أو ما يُعرف أيضاً بـ«وثيقة الوفاق الوطني اللبناني»، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام 1989، نصّ بوضوح على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب ووظائف الفئة الأولى، فإن المسيحيين يخشون باستمرار على دورهم ومصيرهم في البلد، مع تراجع أعدادهم نتيجة هجرة قسم كبير منهم، كما أبناء الطوائف الأخرى، مع اندلاع الأزمة المالية عام 2019، وبعدها انفجار مرفأ بيروت، الذي أدى إلى دمار العاصمة، صيف العام 2020.

وأطل ميقاتي قبل 5 أيام في مقابلة تلفزيونية طويلة، سئل فيها عن أمور كثيرة، ومنها السؤال الآتي؛ ثمة قضية مهمة، وهي أن لدى البطريركية المارونية تقريراً، فهمت أن جزءاً منه وصلك، يفيد بأن إحصاءً موثوقاً كشف أن المسيحيين الذين كانوا يشكلون 23 في المائة من سكان لبنان قبل انفجار المرفأ باتوا يشكلون حالياً ما نسبته 19.4 في المائة، هل هذا صحيح؟ فأجاب ميقاتي: «إذا كان هذا الإحصاء صحيحاً فإنه أمر مؤسف جداً. ولكن أنا لا أقول إن المسيحي وحده يغادر لبنان بل كل شخص تتوافر له فرصة للمغادرة يغادر في هذا الوضع الصعب. أما بالنسبة إلى المسيحيين فأنا أؤكد أننا متمسكون بالعيش الواحد وبوحدة الوطن». وسئل؛ لكن قيل إن البطريركية أرسلت لك التقرير، هل هذا صحيح؟ أجاب: «نعم وصل التقرير. لكن هل هو مؤكد؟ أكيد لا. لكنني بعد قراءته وقراءة تقارير عن واقع المسيحيين في الأردن وسوريا ومصر، ولاحظت تغيراً ديموغرافياً، فطلبت موعداً من البابا وحدد لي لقاء الشهر المقبل، وسأذهب إليه وأشرح له هذا الواقع، الواقع المسيحي في الشرق كله. لا أتدخل في شؤون غيري، لكن هذا جرس إنذار، وأتمنى أن يكون غلطاً، وواجب علينا جميعاً أن نتمسك بالوجود المسيحي»، مشيراً إلى أنه سيبحث أيضاً تعثر الانتخابات الرئاسية التي كرر الدعوة لإجرائها مرات كثيرة لـ«تستقيم الأمور في البلد». ولفت ميقاتي إلى أنه أيضاً سيلتقي البطريرك الماروني بشارة الراعي لمناقشة الأمر قبل سفره إلى الفاتيكان.

وسارعت البطريركية المارونية، في بيان، إلى استغراب «إثارة الموضوع المتعلق بالعدد في لبنان، طالما أنه قد تم تجاوزه في متن الدستور، وبإجماع اللبنانيين على قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين»، معتبرة أن «ما يثير الاستغراب أكثر وأكثر هو توقيت هذا الكلام وطرح هذه المسألة الوطنية في هذه المرحلة التي تقتضي مزيداً من الالتزام بموجبات الدستور والميثاق الوطني، على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع اللبنانيين». وأكد البيان أن «البطريركية المارونية تلتقي مع الرئيس ميقاتي حول التشكيك بصحة هذا التقرير، وتؤكد أن أعداد المسيحيين في لبنان هي أكبر من النسبة المغلوطة التي نسبت إلى التقرير المزعوم».

ورغم ذلك، لم يمر كلام ميقاتي مرور الكرام، بل وظّف في السجال السياسي، إذ تساءلت «المؤسسة المارونية للانتشار» عن «سبب اهتمام ميقاتي بعدد المسيحيين بدلاً من أن يصبّ جهوده على الأمور التي تخفف من نزيف الهجرة، الذي طال جميع اللبنانيين، ولا سيما بؤر البؤس، حيث يدفع الناس أموالاً طائلة لركوب زوارق الموت».

من جهتها، نفت شركة «الدولية للمعلومات» علاقتها بالتقرير الذي كان سبب السجال، وأشارت إلى أن نسبة مسيحيي لبنان تتجاوز 30 في المئة، وليست 19.4 في المئة، وذلك بالاستناد إلى عدد الناخبين المسجلين في انتخابات عام 2022. وقدرت الشركة النسبة الصحيحة بأنها قريبة من نسبة المسيحيين الذين اقترعوا في انتخابات 2022، والتي بلغت 31.9 في المئة.

ولا ينفي رئيس الرابطة المارونية السفير خليل كرم أن يكون «عدد المسيحيين تقلص فعلاً منذ بدء الحرب في لبنان، في العام 1975، ولكن ذلك لا يعني أن عددهم قد تناقص إلى الحد الذي تحدث عنه التقرير الذي استند إليه الرئيس نجيب ميقاتي خلال إطلالته التلفزيونية الأخيرة»، لافتاً إلى أن «مرسوم التجنيس الصادر في العام 1994 الذي طعنت فيه الرابطة المارونية أمام القضاء المختص في حينه، هو الذي شكل الخطر الأكبر، والأكثر تأثيراً على ديموغرافية لبنان، وضرب التوازن النسبي الذي كان قائماً في تلك الفترة». ويشير كرم في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الشغور في سدة رئاسة الجمهورية المترافق مع شلل مؤسسات الدولة، أو معظمها، يدفعنا إلى طرح علامات استفهام كثيرة، خصوصاً أن ثمة نغمة في بعض الأوساط أن المواقع التي يشغلها المسيحيون لا تتناسب مع واقع عددهم الحالي». ويلفت كرم إلى أنه «بعد انفجار مرفأ بيروت شهد لبنان موجة هجرة كثيفة، ليس من المسيحيين فحسب، بل سائر المكونات اللبنانية. ولو أن المسيحيين مثلوا الشريحة الكبرى»، موضحاً أن «الكنائس المسيحية التي تتبع التقويمين الشرقي والغربي تستشعر هذا الخطر منذ وقت طويل، وتسعى للتصدي له، وكذلك الهيئات المارونية المدنية كالرابطة المارونية. ومع أن هذا الملف هو ملف وطني لا ينحصر بطائفة، فإن المسيحيين هم الأكثر تأثراً به، لذلك يحتاج إلى استراتيجية وطنية متكاملة، وحسن قراءة للواقع، من أفق وطني، لا طائفي، ولا فئوي، لأن لبنان من دون الوجود المسيحي القوي والفاعل، لن تكتب له الحياة، وسيكون على هامش الأوطان بعد سقوط نموذجه الإنساني في الحوار الحضاري».

ويؤكد كرم أن «الفرقاء المسيحيين لم يطالبوا بالخروج من اتفاق الطائف»، و«يريدون أن يعيد الجميع قراءته بتمعنٍ، وأن يطبق نصاً وروحاً، لاكتشاف ما يعتوره من نقاط ملتبسة، وتلمس الثغر، ومن ثم الاتفاق على النقاط التي ينبغي تعديلها من أجل أن تتوازن السلطات وتزال الالتباسات».

ولفت أخيراً خروج القيادات المسيحية بوقت واحد لانتقاد الوضعية الحالية والمطالبة بتغييرها. ففيما اعتبر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أنه من الضروري «إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية إذا تمكن (حزب الله) من الإتيان برئيس كما يريد»، أطلق رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مواقف عالية النبرة اعتراضاً على تغطية «حزب الله» جلسات مجلس الوزراء، التي يعتبرها غير دستورية وغير شرعية، في ظل شغور سدة الرئاسة، وأبرزها قوله: «مش ماشي الحال أبداً، ويجب البدء جدياً باللامركزية الموسعة، إن لم يكن بالقانون بعد 30 سنة من الطائف، نبدأها على الأرض».

Related Articles