لبنان

حادث العاقبية: أمن الأهالي فوق كل اعتبار؟

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

قد يكون الإعتداء الذي تعرّضت له الوحدة الإيرلندية في قوّات اليونيفيل في بلدة العاقبية ليل الأول من أمس 15 كانون الأول الحالي غير مدبّر ووليد ساعته ولكنّ ردات الفعل عليه تثبت أنّه لا يمكن أن تكون ذيوله قابلة للّفلفة لأنّه أخذ أبعاداً دولية أكبر من أن يتمّ احتواؤها بتقارير لا تكشف حقيقة ما حصل. فهي ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها القوّات الدولية العاملة في جنوب لبنان لاعتداء ولكنّها ربّما المرّة الأولى التي يأخذ الإعتداء هذه الضجة وهذا البعد إلى الحدّ الذي جعل «حزب الله» يسارع إلى التبرّؤ من تحمّله أي مسؤولية عنه.

منذ أتت القوات الدولية إلى لبنان في العام 1978 تنفيذاً للقرار 425 بعد الإجتياح الإسرائيلي المحدود في 14 آذار من ذلك العام، تمّ التعامل معها من قبل قوّات الأمر الواقع في الجنوب على أنّها قوات حرس حدود لإسرائيل. ونتيجة هذا الأمر حصلت اعتداءات عليها قبل العام 1982عندما كانت القوى الفلسطينية هي التي تسيطر على الوضع في جنوب لبنان، وكانت في صراع مع «حركة أمل»، وكان الشعار المرفوع وقتها أنّ الفوضى الفلسطينية المسلّحة هي التي تعرِّض أبناء الجنوب للإعتداءات الإسرائيلية. وعندما ذهب الإمام موسى الصدر إلى ليبيا في آب 1978 كان يحمل معه مطلب أن يستلم الجيش اللبناني الأمن في الجنوب، وربّما ذهب ضحية هذا الموقف.

التطور الأبرز الذي حصل على صعيد القوات الدولية في الجنوب كان بعد حرب تموز 2006 وبعد القرار 1701 الذي نقلها من قوّة محدودة الفعالية والعدد إلى قوّة أكبر وقادرة على تلبية طلب الحكومة اللبنانية مساعدتها على بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية بحيث تم رفع عديدها إلى أكثر من عشرة آلاف جندي. منذ أتت هذه القوات الإضافية إلى الجنوب لتنفيذ هذا القرار ومندرجاته برزت معارضة «حزب الله» لها ولدورها. اعترض «الحزب» على القرار لجهة المطالبة بنزع سلاحه وتمّ استبدال هذا الأمر بتحويره إلى منع ظهور هذا السلاح. ومنذ ذلك الوقت تعامل «الحزب» مع هذه القوّات على أنّها منافسة لدوره في الحدّ الأدنى وصولاً إلى التشكيك بمهمّاتها واتهامها بأنّها تعمل لمصلحة العدو الإسرائيلي وتؤدّي مهمات أمنية يستفيد منها هذا العدو.

ولذلك كانت هذه القوّات دائما تحت الرقابة اللصيقة للحزب. وخير من عبّر عن هذا الواقع بعد حادث العاقبية كان الشيخ الدكتور صادق النابلسي معتبراً في تغريدة له «أنّ بعض الدول المشاركة في قوات اليونيفيل تعمل وكيل أمن لإسرائيل … يعرفون الطرق والزواريب في لبنان كما يعرفون أبناءهم، لم يكونوا في هذا المكان تائهين ولم يكن غرضهم الخروج إلى شارع «مونو» لاحتساء الكحول».

جملة معطيات

الحادث الذي أدّى إلى مقتل أحد عناصر الوحدة الإيرلندية، جندي السلام شون رووني وإصابة ثلاثة غيره، أخذ أبعاداً جعلت رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزاف عون يزوران مقر القوات الدولية في الناقورة لاستنكار ما حصل والتأكيد على التمسك بدور هذه القوّات.

في إطار أسباب هذا الحادث وتداعياته يمكن التوقف عند المعطيات والنقاط الآتية:

• سبق لـ»حزب الله» أن عارض نشر القوّات الدولية حتى بصفة مراقبين على المعابر البرية والبحرية والجوية على الحدود مع سوريا وفي مطار بيروت وفي المرافئ البحرية تنفيذاً للقرار 1701 واعتبر أنّ هذا الأمر بمثابة إعلان حرب ولذلك لم يتمّ هذا الإنتشار واستبدل بتقديم معدات تقنية للجيش لكي يستخدمها في عمليات المراقبة. وضمن هذا الإطار يدخل اللغط الذي رافق عمليات التحقيق في تفجير مرفأ بيروت ودور القوّات الدولية البحرية في مراقبة السفن الداخلة إلى المرافئ اللبنانية ومن بينها الباخرة «روسوس» التي نقلت كميات نيترات الأمونيوم وهذا ما استدعى توضيحات من القوّات الدولية حول دورها الذي يتكامل مع الدور الذي يقوم به الجيش اللبناني في البحر.

• هذا الحادث يأتي بعد اللغط الذي رافق عملية التجديد لمهمّة القوّات الدولية في آخر آب الماضي مع تعديل طال مهمّاتها المكلفة بها، وفيه أن لا حدود لصلاحياتها ودورها وهي لا تأخذ أو تحتاج إلى أذن من أحد، وهو الأمر الذي اعتبره «حزب الله» خطيراً جداً واستدعى توضيحات من الخارجية اللبنانية ومن الأمم المتحدة لتبديد هواجس «الحزب» على أساس أنّ الجيش اللبناني سيواكب دائما هذه القوات في المهام التي تنفذها. ولكن الجيش اللبناني نتيجة المهام الأمنية المكلف بها في الداخل وعلى كامل الحدود مع سوريا ونتيجة الوضع الإقتصادي واللوجستي الصعب الذي يعاني منه قلّص عديده في الجنوب من حدود 13 ألف عسكري إلى أقل من عشرة آلاف، وبالتالي تقلّصت جزئياً مشاركته في مهمات القوات الدولية، وبات يعتمد أيضاً على مساعدات لوجستية تقدّمها له هذه القوّات.

• عندما حاولت القوات الدولية زرع كاميرات للمراقبة في منطقة عملياتها عارض «الحزب» بشدّة هذا الأمر ولذلك تمّ اعتراض هذه القوات في أكثر من مكان كانت تريد وضع هذه الكاميرات فيه واكتفت بوضعها في نقاط محدّدة قريبة من مراكزها.

• سبق لـ»الأهالي» أن اعترضوا أكثر من دورية تابعة للقوّات الدولية ولم يكونوا يكتفون بمنعها من إكمال مهمّتها بالقوّة بل تجاوزوا هذا الحدّ إلى درجة مصادرة بعض الأجهزة التي كانت تحملها هذه الدوريات للتأكّد من محتواها ومن مسألة ما إذا كانت تتضمّن معلومات عن «حزب الله» ومواقعه.

• وفق الروايات التي تناولت حادث العاقبية فإن إيرلندا اعتبرته اعتداء حصل في بيئة معادية. واعتبره وزير الداخلية بسام مولوي جريمة ورأى «حزب الله» أنّه غير متعمّد. وقالت القوّات الدولية إنّ التحقيق سيكشف عن حقيقة ما حصل. ولكن هل فعلاً يمكن أن يكشف التحقيق هذا الأمر وهل يمكن أن يبقى الحادث اعتداءً وجريمة أم يتحوّل إلى حادث سير؟

• سبق للقوّات الدولية أن واجهت مسألة التحقيق في الأنفاق التي كشفت عنها إسرائيل وقالت إن «حزب الله» حَفَرَها وتجاوز في بعضها الحدود إلى داخل إسرائيل تمهيداً ربما لتنفيذ عمليات ضد الداخل الإسرائيلي. وحتى أنّ الجيش اللبناني لم يواكب علناً هذا التحقيق الذي لم يكشف بعد حقيقة ما كان يفعله «حزب الله». وبالتالي هل يمكن أن يبقى التحقيق في حادث العاقبية مثله فارغًا؟

الصور والفيديوهات

• بحسب المعلومات كانت هناك آليتان تابعتان للوحدة الإيرلندية تنتقلان من الجنوب إلى مطار بيروت لنقل عناصر من الوحدة يريدون العودة إلى بلادهم في عملية تبديل عادية. اللافت في هذا الموضوع أنّ الآليتين كانتا مدرّعتين وظهر من خلال صور الآلية التي تعرضت لإطلاق النار أنّ زجاجها مضاد للرصاص، وكان في كل منهما أربعة عناصر. وبالتالي هل أطلقت عليها النار مرة واحدة أم أكثر من مرة؟

• يظهر من خلال الصور والفيديوات التي انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي جمهرة كبيرة من الناس وفوضى. ويظهر في فيديو جندي جريح من الوحدة الإيرلندية على الأرض قرب الآلية المنقلبة من دون أن يظهر غيره من العناصر. ويُظهر فيديو آخر سيارة مسرعة، سيارة القوة الإيرلندية، وهي تتعرّض لإطلاق النار عليها. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فإنّه يعني أنّ الآلية أصيبت خلال إطلاق النار وهي تسير مسرعة للهرب من الشارع وقد أدّى ذلك إلى إصابة الجنود الإيرلنديين فيها ومقتل أحدهم وانقلاب الآلية بعد فقدان السيطرة عليها، إذا كان السائق هو الذي قتل، وبعد اصطدامها بحافة الطريق أو غيرها. وهذا لا ينفي أن تكون الآلية تعرّضت قبل ذلك لإطلاق النار حيث تظهر آثار للرصاص على جهة السيارة اليمنى وآثار تحطم الزجاج الملاصق للسائق الذي قتل مع آثار للدماء على باب السيارة من الجهة اليسرى.

• إذا كانت الآليتان العسكريتان الإيرلنديتان قد ضلّتا فعلًا الطريق وإذا كانتا نجحتا في الخروج من التطويق الذي شلّ حركتهما فلماذا تم إطلاق النار؟ وماذا كان يريد «الأهالي» أكثر من ذلك؟ هل كانوا يريدون مصادرة تقنيات وأجهزة موجودة في حوزة القوة الإيرلندية للتأكد مما إذا كانت تقوم بمهمة أمنية؟

• هل دخلت الآليتان معاً في الطريق الفرعية وهل نجحت إحداهما في الفرار وتعثّرت الثانية أم أنّ الآلية التي تعرضت للنار هي التي ضلّت الطريق وحدها؟ ولماذا تضلّ الطريق إذا كانت متجهة إلى المطار وإذا كانت تسلك طريق الأوتوستراد السريع بين صيدا وصور؟ هذا الأمر لا يمكن إخفاؤه خصوصاً أنّه من المفترض أن تكون آليات القوة الدولية مزودة بأجهزة GPS تحدّد حركتها وتمكّن قيادة هذه القوّات من تحديد أماكن الآليات وطرق سيرها لأنّها حريصة على أمنها وعلى دورها في ظلّ العلاقة الملتبسة مع حزب الله ونتيجة تجارب سابقة.

الضجة المحيطة

• لا يمكن أن لا يكون هناك تحقيق جدّي في هذه القضية بسبب الضجّة التي أحيطت بها ولأنها تتعلّق بدور القوات الدولية بحيث لم يعد من الممكن ضبضبتها. كان يمكن أن يحصل ذلك فيما لو لم يحصل تدخّل في التحقيق من القوات الدولية أو من الدولة الإيرلندية التي تريد أجوبة واضحة تكشف حقيقة ما حصل. ولذلك لا يمكن أن يبقى التحقيق ضد مجهول أو أن يتم الإكتفاء بوصف الحادث وبتقرير الأطباء الشرعيين كما حصل مثلاً في قضية اغتيال لقمان سليم. ولا يمكن أن يكون التحقيق مشابهاً لما حصل في قضية قتل الملازم الأول الطيار سامر حنا الذي اضطر أن يهبط بطوافته في أحد مواقع «حزب الله» في الجنوب عندما تمّ تقديم أحد عناصر «الحزب» الذي لا علاقة له بالقضية إلى التحقيق ليتم إطلاق سراحه لاحقاً وإقفال الموضوع. وبالتالي لا يمكن أن يقتصر التحقيق في هذه القضية على بعض شهود العيان وتركهم. وهذا الأمر يعتبر تحدّياً لأجهزة السلطة القضائية والأمنية وخصوصاً الجيش اللبناني بعد تكليف مديرية المخابرات بهذه المهمة من القضاء العسكري. فأي نتائج ستتحقق وهل يمكن أن تؤثر على طرح اسم قائد الجيش العماد جوزف عون كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية وذلك على خلفية الطريقة التي ستتعاطى معها القيادة مع هذا التحقيق الذي وضع تحت الرقابة الدولية وتحت رقابة «حزب الله»؟ وهذا الأمر لا علاقة له بما إذا كان الحادث غير مدبّر وحصل عرضاً أم كان نتيجة متابعة لصيقة لعمل القوات الدولية وتطوّر إلى عملية القتل خصوصاً أنّ التسريبات ذكرت أنّ «الأهالي» تابعوا تحرّك القوة الدولية بعدما لاحظوا أنها دخلت في طرقات فرعية حتى أوقفوها.

• إنّ هذا الحادث يأتي في وقت يطرح فيه موضوع توسيع إطار عمل القوات الدولية تنفيذاً للقرار 1701 ومعارضة «حزب الله» لأي دور من هذا النوع لأنّه يعتبر أنّ تحرّك القوات الدولية حتى في جنوب الليطاني موجّه ضده. ويأتي أيضا في ظلّ مطالبة البطريرك الماروني بشارة الراعي بتدويل القضية اللبنانية التي يمكن أن يكون توسيع إطار عمل القوات الدولية إطاراً له. وهو يأتي قبل الزيارة المتوقعة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتفقد القوات الفرنسية المشاركة في القوات الدولية. ولذلك يعطى هذا الحادث هذه الأهمية.

تحقيقان منفصلان

• لم يستطع «حزب الله» أن يخفي خطورة ما حصل وظهر موقفه الصعب وإحراجه من خلال تولي مسؤوله الأمني الحاج وفيق صفا مهمة التواصل مع القوات الدولية والإدلاء بتصريحات إعلامية لنفي تحمل المسؤولية. ولكن هذا الحادث يجعل «الحزب» يواجه تحدّي التعاطي مع القوات الدولية ومع تطبيق القرار 1701 بحيث أنّه لا يمكن أن يستمرّ في تعطيل عمل هذه القوّات وتحديد دورها وكأنه هو مجلس الأمن.

• قد يكون هناك تحقيقان منفصلان: تحقيق رسمي لا يسمّي الأمور بأسمائها ولا يتّهم «حزب الله» ولا يتم توقيف أي متهم. وقد يكون هناك تقرير معلوماتي لا يتم توزيعه بل يكشف الحقيقة ويبقى ضمن إطار السرية بين القوات الدولية والجيش اللبناني ومجلس الأمن والدولة الإيرلندية. ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يلغي خطورة ما حصل ولا يمكن أن يبقى سرّياً إلا إذا كانت القوات الدولية قابلة بأن تمرّ المسألة بهذه الطريقة.

• يبقى على التحقيق أن يحدد ماذا فُقِد من الآلية العسكرية الإيرلندية وكيف تمّ العبث بمسرح الجريمة قبل وصول القوى الأمنية الرسمية والأدلة الجنائية.

• ثمة تخوف من أن يتحوّل الموضوع من التحقيق مع المتهمين بإطلاق النار على القوة الإيرلندية إلى التحقيق مع الجنود الإيرلنديين الناجين وتحميلهم مسؤولية الحادث لأنهم غيَّروا مسارهم من دون موافقة «الأهالي».

إذا كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قال في الناقورة إنّ التحقيق سيحصل ومن تثبت إدانته سينال جزاءه فهذا لا يعني أن أحداً ستثبت إدانته وبالتالي قد لا ينال أحد جزاءه. ولا شك في أنّ نتيجة هذا التحقيق ستكشف ما إذا كان سيتمّ تحديد إطار تحرّك القوات الدولية أو سيتمّ تحديد إطار تحرّك «حزب الله»، وما إذا كان أمن «الأهالي» في الجنوب هو فوق كل اعتبار أم أن أمن لبنان والقوات الدولية والجيش هو فوق كل اعتبار. وما إذا كان يحق لـ»الأهالي» هناك بما لا يحق لغير «أهالي» في غير منطقة على قاعدة المساواة: الأمن بالتراضي والأمن بالتوازي.

Related Articles