هل دخل القمح الفاسد؟ وأيّها اللبنانيون: اقبلوا بالموجود
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
دخَلت السوق اللبنانية أم لم تدخل؟ هل تذكرونها؟ هي تلك الباخرة المحمّلة بالقمح الأوكراني والتي شكّلت مادة لجدل عقيم بلغ أوجه في نيسان الماضي وهي راسية قبالة شواطئنا. لن نعود إلى التلاعب في نتائج العيّنات أو الغموض الذي شاب التحقيق في ما إذا كان القمح المحمّل على متنها صالحاً للاستهلاك البشري، أو حتى المحاولات الحثيثة في حينه لإفراغ حمولتها مهما كلّف الأمر تحت جُنح المحسوبيات والمصالح، وما أكثرها. هنا نصبّ تركيزنا على وجه آخر للمسألة. كثيرون يشتكون مؤخّراً، أفراناً ومستهلكين، من تغيير واضح في رائحة وطعم الرغيف وأخواته كما من صعوبة في المضغ. ليس ثمة ما يطمئن في كل ذلك.
أمّا بعد، فربطة الخبز بـ18 ألف ليرة، كيس الكعك اليابس بـ100 ألف ليرة في بعض المخابز، المنقوشة بـ30 ألف ليرة وأكثر… والخير لقدّام. في حين أن منتجات القمح المدعوم في بعض الأفران، بحسب مصادر مؤكّدة، لا تزال تُصدَّر إلى الخارج بناء على تراخيص مسبقة من وزارة الاقتصاد. هذا في وقت اتّبعت فيه دول كثيرة سياسة «الأمن الغذائي» مانعة تصدير منتجات القمح حماية لمواطنيها وتصدّياً لأزمة عالمية لا يبدو أنها ستتراجع حدّة عمّا قريب.
مدير مصلحة حماية المستهلك يؤكّد في أحاديث إعلامية أن الرقابة غائبة كلياً، فالتسعير «كل مين إيدو إلو» والبلديات ليست على السمع أيضاً. حاولت «نداء الوطن» التواصل مع بعض الأفران، الكبيرة منها ومتوسطة الحجم، للوقوف على نوعية القمح المستخدم في إنتاج الخبز وأسباب تبدّل المذاق ورائحته، إلّا أن معظم أصحابها امتنعوا عن الإدلاء بأي معلومات. لكن لنا عودة إلى ذلك في سياق الموضوع. أما الوزراء المعنيون، وعلى رأسهم وزيرا الزراعة والصناعة، فكان التهرّب من أسئلتنا القاسم المشترك بينهم عندما حاولنا استمزاج آرائهم. ماذا يجري؟
من يجيب عن أسئلتنا؟
ماذا يأكل الشعب اللبناني بشيبه وشبابه وأطفاله؟ من يراقب نوعية الخبز ويحدّد معايير الإنتاج؟ كيف يتم تطمين المواطنين حيال عدم إفراغ حمولة القمح الفاسد من الباخرة إياها في السوق اللبنانية؟ ما الخطوات الاستباقية المتّبعة لتجنّب حدوث ما لا تُحمَد عقباه؟ لمَ لا يستعاض عن القمح المستورَد بتطوير الإنتاج المحلي ومنه البذار المؤصّل في مصلحة الأبحاث الزراعية؟ من يضمن نوعية القمح المستورد لا سيما وأن الفحوصات المخبرية تشير إلى فساد الكثير منه؟ ماذا عن إلغاء الفحوصات المخبرية في لبنان والاكتفاء بفحوصات بلد المنشأ والتي، بحسب مصادر معنية، يتمّ التلاعب بها داخل الأراضي اللبنانية؟
هذه أسئلة حملتها «نداء الوطن» بداية إلى وزير الاقتصاد، أمين سلام، الذي اعتبر أن وزير الزراعة، عباس الحاج حسن، هو الجهة المخوّلة للإجابة. اتصلنا بالأخير، لكنه أحالنا على مستشاره الإعلامي، فأتى الردّ الخطي سريعاً: «الإجابة من ضمن اختصاص وزارة الاقتصاد». لا بأس. عاودنا الاتصال بالوزير سلام، وكرّرنا المحاولة ليومين متتاليين… من دون جدوى. تهرّب من الإجابة أم تقاذف مسؤوليات أم مزيج من الاثنين معاً؟ لكم أن تحكموا.
الأزمة تتفاقم
نعود إلى أزمة الطحين. فهي بدأت بعد انفجار مرفأ بيروت وتدمير إهراءات القمح فيه وتفاقمت منذ عام تقريباً. وأبرز أسبابها يمكن تلخيصها بما يلي: توقّف الدولة عن شراء القمح من المزارع اللبناني وتخزينه في مستودعاتها كاحتياطي يُستخدم في الحالات الطارئة؛ عدم تأمين وزارة الاقتصاد ومكتب الحبوب والشمندر السكري مخازن بديلة عن الأهراءات لضمان عملية تخزين القمح المستورد، ونذكر أن مستودعات الوزارة في البقاع التي تحوّلت، بسبب الإهمال وسوء الإدارة، إلى مكب للنفايات؛ استيراد قمح قديم غير مطابق للمواصفات، لكن بطرق شرعية، ما يؤخّر عملية التسليم والتوزيع، خاصة وأن إصدار نتائج فحوصات القمح المخبرية تتطلب من 12 إلى 14 يوماً.
الأسباب لا تقف عند هذا الحدّ. فامتناع مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات، احتكار الطحين من قِبَل بعض المطاحن بالتوازي مع احتكار توزيع القمح (أو سوء توزيعه) من قِبَل مكتب الحبوب والشمندر السكري، والتمادي باستغلال الأزمة من أجل رفع الأسعار، جميعها عوامل ساهمت في تأجيج الأزمة، عن سابق تصوّر وتصميم، بسبب غياب التخطيط أو استهتاراً بلقمة عيش الناس، لا فرق.
تدابير لم ولن تتّخذ
مصدر واسع الاطلاع على ملف الطحين والقمح أكّد لـ»نداء الوطن» أن اتخاذ تدابير استباقية كان أكثر من ملحّ، إلا أن الخطوات التي كان يجب اتخاذها تفادياً للكارثة كانت معدومة، مضيفاً: «كان لا بدّ من تأمين مستودعات بديلة عن الأهراءات، تنظيف مستودعات وزارة الاقتصاد في البقاع واستخدامها للتخزين بدلاً من أن تكون مكباً للنفايات، لا سيما وأن مساحتها شاسعة، كما التوجّه إلى شراء كميات كبيرة من القمح مباشرة بعد انفجار المرفأ وتأمين احتياطي كافٍ يُستخدم في الأزمات. ناهيك بشراء الإنتاج المحلي وعدم السماح بتصدير القمح اللبناني”.
ومن وجهة نظر المصدر، كان على الحكومة شراء القمح من المزارعين اللبنانيين بعد الانفجار بسعر 1200 ليرة للكيلوغرام الواحد، علماً أن السعر العالمي كان 3500 ليرة للكيلوغرام آنذاك. كما كان يتوجب منع تصدير أي نوع من القمح على غرار 70 دولة أخرى متضررة من الأزمة العالمية. وتساءل المصدر في هذا السياق: «لماذا تمّ التوقف عن دعم زراعة القمح الطري والقاسي المحلي ودعم إنتاج البذار المؤصل من قِبَل مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، ولِمَ وقف التعاون مع المطاحن لإدخال ما بين 8 إلى 10% من القمح القاسي في صناعة الرغيف، وهذا ما كان يحصل قبلاً؟».
خطأ كان أم خطيئة، غير أن المتسبّبين أو المشاركين، بغض النظر عن التوصيف، كثيرون: وزارة الاقتصاد، وزارة الزراعة، وزارة المالية، مصرف لبنان، مكتب الحبوب والشمندر السكري… لا بل الحكومة مجتمعة كما يذهب البعض إلى القول. فهل تكون أزمة الطحين ونفاده من السوق ورقة ضغط لإدخال القمح الفاسد؟ سؤال آخر برسم المعنيين، إذ لو تجاوبت الحكومة مع الخطط الإنقاذية التي قدّمتها مصلحة الأبحاث في السنوات الماضية، لكان لدينا اليوم حوالى 150 ألف طن من احتياطي القمح.
نسأل المصدر نفسه عن إمكانية الخروج من الأزمة، فيجيب: «لقد فات الأوان. من الصعب جداً تخطي المشكلة لأن هناك كميات كبيرة محتكرة للاستفادة من ارتفاع سعر الطحين. كما يتوجب على مصرف لبنان تسهيل شراء القمح وعدم التأخر في استيراده وعلى وزارة الاقتصاد شراء قمح صالح وغير فاسد مانعة إعادة تصديره إلى الخارج».
أيام صعبة تنتظرنا
نسعى إلى مقاربة الموضوع من منظار الأفران، فنتلمّس رأياً مخالفاً. إذ في اتصال مع إداري في أحد المحال أشار إلى أن الأزمة الحقيقية بدأت مع امتناع المصرف المركزي عن تحويل الاعتمادات بهدف ترشيد استخدام العملات الصعبة، ما انعكس سلباً على كميات احتياطي الطحين في السوق. انفجار المرفأ زاد الأمور تعقيداً ليصل التعقيد إلى أوجه مع اشتعال الحرب الروسية – الأوكرانية، بحيث ارتفع سعر طن القمح من 300 دولار إلى 550 دولاراً، في حال توافر.
عن نسبة الإقبال يلفت الإداري إلى أن التهافت على شراء الخبز ارتفع بشكل ملحوظ، مع تراجع الطلب على المنتجات الأخرى، وتابع: «كان الزبون يشتري ربطة واحدة من الخبز في حين تشكّل المنتجات الأخرى 80% من قيمة فاتورته، أما اليوم فقد أصبح يشتري ربطة خبز وحسب ويرحل». من ناحية النسب، فقد بات الخبز العربي يشكّل حوالى 70% من مبيعات الأفران. وهي نسبة قابلة حتماً للارتفاع، وفق الإداري، بعد التوقف الكامل عن دعم الطحين الإكسترا الأسبوع الماضي، والذي يُستخدم في صناعة الخبز المرقوق والكرواسان والمناقيش وغيرها. التوقف هذا من شأنه أن يفاقم من ارتفاع الأسعار التي ستزيد أقلّه من 8 إلى 10 أضعاف. نسأل عمّن يحدد الأسعار، يجيب الإداري: «وزارة الاقتصاد تحدد سعر الخبز العربي فقط، أما سائر المنتجات فيحددها السوق، لذا هي تختلف من فرن إلى آخر».
كيف تتأكدون من نوعية الطحين؟ سؤال آخر طرحناه على الإداري الذي شرح أن «هناك قمحاً «فاسداً» ضمن معايير مقبولة وآخر غير مقبول نهائياً. فبعد الأزمة، تمّ إلغاء كافة عقود الاستيراد المؤجلة، ما اضطُر المطاحن إلى الحصول على القمح بأية طريقة متاحة. من جهّتنا لا نتّكل على فحوصات الوزارة، حيث لدينا مختبراتنا الخاصة لفحص عيّنات الطحين والتأكّد من مطابقته للمعايير. أما بالنسبة إلى المطاحن الأخرى، فلست أكيداً كيف يتم التعاطي مع الأمور».
طعم ورائحة ولون الخبز تغيّر… إلى الأسوأ. لماذا؟ «بسبب الأزمات المتلاحقة، القمح الذي نأكله ليس من أفضل النوعيات. علينا أن نقبل بالموجود وهنا يأتي دور وزارة الاقتصاد في فرض التشدد والرقابة». فطريقة عمل الأفران تختلف باختلاف إمكانياتها، هذا إضافة إلى عجز الكثير منها عن القيام بأعمال الصيانة الدورية كما انقطاع الكثير من المواد الأولية او التوجه إلى مصادر بديلة: «كنا نشتري الخميرة من تركيا فأصبحنا نشتريها من إسبانيا، وحين يتغيّر المصدر يتغيّر المنتج حكماً وبالتالي طعمه ونوعيته ورائحته أيضاً»، بحسب الإداري الذي يختم قائلاً: «المستقبل صعب والتحدي أصعب ولولا التزامنا كفريق عمل برسالتنا لما استمرينا أملاً بتخطي المرحلة في ظل انعدام أي مساندة من الدولة. نقوم بكل ما بوسعنا لتأمين النوعية الأفضل للمواطن لكننا لا نضمن ما يأكله من المطاحن الأخرى».
أردنا الذهاب أبعد ومحاولة استشراف الانعكاسات الصحية التي قد تتأتى عما نختبره الآن من تردّي جودة الخبز ومشتقاته. فتوجّهنا بالسؤال إلى أكثر من أخصائي تغذية وصحة عامة وأمراض جهاز هضمي. لكنهم أجمعوا أن ليس ثمة معلومات كافية عالمياً عن حالات مماثلة لإبداء رأي علمي قاطع حول المسألة. لماذا؟ لأننا على ما يبدو حالة فريدة في هذا المضمار، كما يقول هؤلاء. لا غرابة. فما هي الدول التي يدخل قمح فاسد، أو أقلّه غير مطابق للمواصفات، في نظام شعبها الغذائي على هذا النطاق وبهذه السهولة يا تُرى؟