كتبت باتريسيا جلاد في “نداء الوطن”:
كان اللبناني المنتمي الى الطبقة الفقيرة والمتوسطة “ماشي حالو” و”مؤمّن عيلتو” استشفائياً، قبل تفجّر الأزمات المالية والنقدية والمصرفية… لدرجة أننا كنا نُحسد على العلاجات السريعة التي كان يحظى بها الفرد على عكس ما هو عليه الحال في بعض الدول مثل بريطانيا، إذ يوضع المريض على لائحة الإنتظار ثلاثة اشهر، قبل الدخول إلى المستشفى. أما اليوم فبتنا في وضع لا نحسد عليه، الدواء مفقود، التغطية الصحية غير متوفّرة من الجهات الضامنة وحتى من شركات التأمين التي باتت تتقاضى مقابل الأقساط التأمينية الدولار النقدي فقط لتوفير التغطية الإستشفائية بنسبة 100%. أما من ليس لديه عملة خضراء فتلقي العلاج بات بالنسبة اليه مسألة نادرة وصعبة.
أنواع التغطية الصحّية في لبنان
تتعدّد أنواع التغطية الصحية في لبنان وتختلف نسبها. وزارة الصحة المولجة بتوفير التغطية الصحية وتنظيم القطاع الصحي بمجمله كانت تنفق نسبة 87% من موازنتها العامة على الإستشفاء والأدوية وتحظى البرامج الوقائية والرعاية الصحية الأولية بأقل من نسبة 5% من الموازنة.
في المستشفيات الحكومية كانت التغطية قبل الأزمة محدّدة بنسبة 95%، وفي المستشفيات الخاصة 85% من إجمالي الفاتورة. ومنذ العام 2016 ، بدأت “الصحة” تغطية علاج واستشفاء من هم فوق الـ64 بنسبة 100 في المئة .
أما في ما يتعلق بالجهات الضامنة فنسب التغطيات والتعرفات تختلف وتتوزّع على الشكل الآتي:
– الضمان الإجتماعي التابع لوزارة العمل، يوفّر عادة للمنضوين تحت عباءته تغطية استشفائية بنسبة 90% على أن يتحمّل المواطن فارق الـ10% (اليوم انقلبت المعادلة).
– الجيش، تابع لوزارة الدفاع وكان يحظى بتغطية شاملة (بات اليوم يسدّد فوارق).
– الأمن الداخلي ومديرية الأمن العام تابعان لوزارة الداخلية وكانا يحظيان بتغطية كاملة أي بنسبة 100% (وباتا اليوم يسدّدان فوارق).
– تعاونية موظفي الدولة تضمن جميع الموظفين العموميين في الإدارات العامة بما فيها الجامعة اللبنانية باستثناء أفراد القوى المسلحة العسكريين أو المدنيين، كما تشمل تغطيتها موظفي وحرس مجلس النواب الدائمين بقرار يصدر عن رئيس المجلس النيابي. وتؤمن التعاونية التغطية لنفقات الاستشفاء بنسبة 90% و75% لزوم الأدوية والفحوصات الخارجية…وقبل بدء رحلة الإنهيار رفعت التعاونية نسبة مساهمتها في تغطية نفقات الامراض السرطانية لتصبح بنسبة 100%.
صناديق التعاضد
– صناديق التعاضد، تنقسم إلى نوعين، إما أن يكون الإنتساب إليها إلزامياً كما هي الحال بالنسبة الى كتّاب العدل والقضاة، وتتكفّل بتكاليف الخدمات الطبية التي يحتاجونها، وإما أن يكون الإنتساب إليها إختيارياً، كما هي حال أساتذة وموظفي الجامعة اللبنانية الذين يستطيعون الإنتساب إلى صندوق التعاضد الخاص بهم رغم استفادتهم من خدمات تعاونية موظفي الدولة أو الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، بهدف الإستفادة من فارق نفقات الإستشفاء التي يتكبدّونها.
– شركات التأمين الخاصة للأفراد غير المؤمنين من أي صندوق ضامن من تلك المعددة سابقاً وهي تابعة لوزارة الإقتصاد، كانت تغطي المؤمّن لديها بنسبة 100% وتسدّ ثغرات الفوارق لدى الجهات الضامنة الأخرى، اليوم باتت تقسم درجة تغطيتها بين أولئك الذين سددوا الأقساط بالدولار نقداً والذين أودعوا القسط بالليرة اللبنانية سابقاً وأولئك الذي دفعوا مستحقاتهم من خلال تحويلات وشيكات. اما تسعيرة التعرفة الإستشفائية المحددة للمستشفيات، فتتفاوت بين جهة ضامنة وأخرى، وهذه السياسة وصفها وزير الصحة العامة الدكتور فراس الأبيض خلال حديثه الى “نداء الوطن” بـ”الخاطئة اذ أن كل جهة لديها تعرفتها الخاصة وتمويلها الخاص بسبب وجود مشاكل إدارية، ما يؤدي الى عدم وجود نظام موحّد معتمد في عملية الدفع one payer system للصناديق الضامنة”.
ماذا تغيّر اليوم؟
اليوم ومع استفحال الأزمة وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء من 1515 ليرة لبنانية الى 27 ألف ليرة أي بنحو 17.5 ضعفاً، تبدّلت المعادلة لدى المستشفيات الخاصة فارتفعت الكلفة الإستشفائية بسبب انقطاع الكهرباء بشكل دائم والإعتماد على المولدات الخاصة التي تعمل على المازوت. فدخل “الحابل بالنابل” وبدأت عملية “شدّ الحبال” بين المستشفيات وشركات التأمين والجهات الضامنة، فكان المواطن الضحيّة وتمّ تجريده من التغطيات التي كانت تظلّله.
فبات من الصعب على المضمون الدخول الى المستشفى من دون تكبّد فواتير ضخمة، ما جعل الطبابة والإستشفاء والحصول على الدواء أمراً مستعصياً حيناً ومستحيلاً حيناً آخر. فبعض الجهات الضامنة لا تزال في الوقت الراهن تحاسب المستشفيات على أساس السعر الرسمي للدولار. هذا الأمر قلب معادلة تغطية الضمان من 90% الى 10% على أن يتكلف المريض نسبة الـ90% من جيبه الخاص. ماذا عن الجهات الضامنة الأخرى؟
يقول الأبيض إن “نقابة المستشفيات الخاصة، تجد أن التعرفة يجب أن ترتفع بين 9 و 10 أضعاف للتمكن من تغطية التكاليف التي تفاقمت”. من هنا فهي ترفض استقبال مرضى الضمان لإجراء عملية جراحية على سبيل المثال قبل تقاضي الفارق مسبقاً من المريض. وكذلك الأمر بالنسبة الى الجهات الضامنة الأخرى.
وبالنسبة الى الجيش، فقد رفع سعر التعرفة 4 أضعاف اي وفق سعر صرف بقيمة 6000 ليرة، أما وزارة الصحة التي حصلت على تمويل من البنك الدولي فزادت تعرفتها بـ3.5 أضعاف ما يخفف تسديد الفروقات عن كاهل المواطن”. وبقيت فواتير مرضى الضمان وتعاونية موظفي الدولة وقوى الأمن تحتسب وفق تعرفة السعر الرسمي للدولار.
ووسط انحدار مستوى وقيمة التغطية التأمينية وتحوّل القطاعات الطبية والإستشفائية نحو الدولرة النقدية، “فإن نسبة 10% من المواطنين فقط قادرة على شراء بوالص تأمين بالدولار نقداً” كما أكّد الأبيض. وبالتالي ان هؤلاء هم الوحيدون الذين سيلقون تغطية بنسبة 100%. فماذا تفعل نسبة الـ90% المتبقية وهل وزارة الصحة قادرة على تسديد كلفة الطبابة في المستشفيات؟ يؤكّد الأبيض أن “غير المؤمنين لدى القطاع الخاص يواجهون مشكلة في الإستشفاء بسبب عدم قدرة الجهات الضامنة على سدادها”. موضحاً أن “وزارة الصحة تقوم بخطوات لتأمين اكبر نسبة ممكنة من التغطية الصحيّة وتخفيف الكلفة على الفقير. فعدا عن إقدامها على زيادة تسعيرة التعرفة للمستشفيات الخاصة تسعى الى دعم وتقوية الحكومية منها اذ تمّ توفير مازوت للمستشفيات الحكومية بقيمة تعادل 5 ملايين دولار من دولة قطر لتلبية حاجتها لفترة 6 أشهر. فضلاً عن مساعدات نتلقاها من جهات دولية في المعدات والمستلزمات الطبية لتخفيف عبء فارق الفاتورة الإستشفائية قليلاً عن كاهل المريض”.
وأضاف: “رغم ذلك، لا تزال لدينا مشكلة عدم القدرة على تغطية كل التكاليف التي تترتب على المواطنين وذلك نسبة الى الحالة الإستشفائية التي أدخل على اساسها المريض الى المستشفى اذ أن هناك طرق معالجة لا تتطلب مستلزمات طبية فتكون عندها التغطية بدرجة أكبر. أما إذا كان هناك من حاجة الى مستلزم طبي وهو غير مدعوم 100% مثل العظام على سبيل المثال … فهنا على المريض تسديد الفارق”. مشيراً الى أن “هناك تفاوتاً في كلفة العملية الواحدة بين مستشفى وآخر ويعتبر ذلك جزءاً من الفوضى التي نواجهها في القطاع الإستشفائي والتي نعمل على تذليلها مع المستشفيات”.
وفي ظلّ هذا الوضع، وحتى إيجاد مخارج مبنية على ركائز طويلة الأمد، “تبقى المستشفيات الحكومية الملاذ الأساس للمواطنين الذين لا يستطيعون تلقي العلاج في المستشفيات الخاصة”، كما ختم الأبيض.
تمويل النظام الصحّي
ثلث النظام الصحّي اللبناني كان يتمّ تمويله منذ عامين ونصف من عائدات الضرائب وثلث آخر من مساهمة أرباب العمل contribution وثلث ثالث يسدده المرضى من خلال بوالص التأمين أو تسديد الفروقات عند الدخول الى المستشفى.
درس التغطية الصحية لمرحلة ما بعد الأزمة
تعدّ وزارة الصحة مع منظمة الصحة العالمية برنامجاً حول المستقبل الصحي في لبنان، من المتوقع إنجازه وطرحه في تموز المقبل كما أكّد وزير الصحة فراس الأبيض. وهو عبارة عن حلقات دراسية لإعداد برنامج حول المستقبل الصحي في لبنان مع تحديد مصادر تمويل التغطية الصحية أكانت من المواطن أو مساهمة أرباب العمل بالضمان… هكذا يتم رسم صورة حول موضوع التغطية الصحية لمرحلة ما بعد الأزمة والمسار الذي سنسلكه.
وعن إمكانية الحصول على دعم لهذا البرنامج الصحّي، قال وزير الصحة إن ذلك يعتمد على وضع البلاد المالي ومسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والوضع الإقتصادي. تماماً كما يحصل مع الفرد الذي يشتري تغطية صحية فذلك يعتمد على وضعه المالي!».