إلى العصر الحجري در!
كتبت ريتا بولس شهوان في “نداء الوطن”:
تمخّضت حكومات العهد، وولدت شعارات، لا تطعم المواطن ولا تعينه بفاتورة إن تشجع وملأ استبيان برنامج “دعم” الذي يتساءل المواطن عن صحته وما إذا كان مجرد جمع معلومات بعد ان فقد الأمل بهذه الدولة. هكذا دخل التغيير الى حياة المواطن اللبناني بشكله السلبي، بعد ثورة 17 تشرين، فبدل ان تتطور حياته وتتقدم مقوّمات العيش وشروطها ها هو اليوم خاضع لكل المؤشرات الاقتصادية السلبية في اصغر تفاصيل حياته حتى صار يضطر الى ان يشرب المياه الملوثة بعد ان يغليها لتعقيمها بدل ان يدفع المئة الف ليرة ثمنها اسبوعياً ليروي ظمأ عائلته.
جالت “نداء الوطن” على بعض العائلات في كسروان، المتن وجبيل لتستفهم كيف تغيرت ظروف حياتهم وعن تكيفهم مع مبدأ التقشف. تعيش سناء (متزوجة من جبيل) من فتات الحد الأدنى من راتبها ان حصلت عليه من القطاع العام فتهندس حياتها وحياة أولادها وفق نمط الكهرباء التي تزورهم كضيف خفيف طيفه. التغيير هذا غيّر نمط حياتهم الى الاسوأ، رماهم ضحية البرد في الفراش الذي يحجز مكاناً جوهرياً قرب افراد عائلتها ولا يمكنها اشعال المدفأة كي لا يركض عداد الإشتراك في مولد الكهرباء، وتتخطى فاتورته الملايين، ولا تقدر على غسل ملابس الأولاد الا عندما تضيء الكهرباء الضوء الأخضر. طفلتها الصغيرة ضحية الازمة الاقتصادية أيضاً فتتقشف لها بالحليب فتستكثر الكوبين عليها بحيث تضع ملعقة حليب لكل كوب، ليس بخلاً، لكن خوفاً من سعره، الذي لا يمكن الحصول عليه بسهولة، وسعره مرتفع للغاية لكن منطق التقشف جائز بالطعام وادارته غير انه يتعذر ذلك مع الحفاضات فحتى لو اشترت ارخص نوع “بتضل ايدي ع قلبي من الحساسية”، اذ ان كلفة الدواء عالية. حوّل الغبن حياة المواطنين الى كابوس فاصبح “التعميم” أهون الشرين كأن عبارة “كل العالم هيك” تخفف من وطأة ما يحدث فيتبنج الفرد من الألم، فسناء تشعر بعدم قدرتها تدبير امرها فلا راتبها يصل عند موعده ولا راتب زوجها الموظف في شركة يكفي اكثر من طعام وفواتير، ان بقي منه شيء. تتكل على اعاشات البلدية من الحبوب التي تكفي شهراً او شهرين ليكون بذلك الأكل المعتمد الروتيني.
هذا حال معظم العائلات التي قابلناها التي أيضاً تستفيد من مساعدات برنامج الأغذية العالمية، التي تتواصل مع المواطنين، بعد ان تدرس ملفهم لتعيلهم بمونة تكفي لاشهر وقد أضيفت على المساعدات هذه أخرى مالية بقيمة 25 دولاراً. التغيّر بحياة المواطنين منذ عامين يدور حول سعر صرف الدولار مقابل الليرة على عدد الثواني ويذهب من سيئ الى أسوأ ليكون بذلك مؤشراً في سباق تطور الازمة وتداعياتها على كاهل المواطن الذي عاد الى أيام البابور، الموقدة، التي تحتاج الى حطب وحشائش لشطب الغاز من لائحة المصاريف او اقله التخفيف من الاستهلاك. هكذا نشأ فن التقشف مع ارتفاع الأسعار 30 مرة وما فوق، فميرنا (كسروان ) لا تطبخ الا على البابور، وان كانت الطبخة تحتاج الى الغاز تستعمل الطناجر المناسبة والتي لا تصرف من انفاس القارورة الثمينة أو تخفض الحرارة الى ادنى المستويات. عند سردها لهذا “الانحدار” في المستوى المعيشي، او مقومات العيش تضحك سائلة: “ليك وين صرنا بأيا عصر”.
التغيير السلبي والتحول الذي طرأ بعد أن كانت الحكومات المتعاقبة، تعد بحلول مع اشتداد الازمة وغياب أي خطة لم تكن الا شعارات تدور حول خطة التعافي التي لم يطبق منها شيء حتى الساعة، مما فاقم الهم، في كل بيت ومع كل فرد فبدل ان يفرح اللبناني باولاده، يهرول ليؤمن لهم معيشتهم فتضيع أحلامه الكبرى والصغرى كما تتدحرج طموحات الأولاد. تخبر دانيا انها هي وزوجها بعد أن اشتريا منزلهما، وعادا من الغربة واقترضا من الإسكان، يجدان نفسيهما اليوم بلا مستقبل، فحتى زوجها الذي هو دكتور جامعي ومدير قسم، راتبه لا يصل الى 5 ملايين ليرة وهي لا تكفي ليعيش الأولاد حياة كريمة فتصل هي وعائلتها الى ربع الشهر وهم قد صرفوا كل مبالغ راتبيهما الذي هو على “اللولار”، وتبخر مع موسم الأعياد منذ اول الشهر فينتقلون بذلك الى مرحلة الصرف من مدخراتهم العالقة أيضاً بالمصرف وبقي منها 20 الف “لولار”.
ترفض ان يدفع أولادها الثمن فما ذنبهم؟ على حد تعبيرها، فتصف انهم تعلموا في هذا البلد معنى الازمة المعيشية فهم شهود على كيف نخفف من اللحمة ونقطعها الى “انصاص وأرباع” لنطبخ بها اسبوعياً، اما الحلويات فهي تصرف من التوفير في سعر الغاز، والشوكولا غير متوفر بأسعار معقولة فحتى الذي كان يباع بخمسمئة ليرة اصبح بخمسة آلاف أي لا يمكن استهلاكه يومياً. تعذر تأمين التفاصيل الصغيرة للأولاد يعني حتماً تقلّصاً في “المشاوير” ومصروفهم الشخصي اذ حتى “المنقوشة” في المدرسة حرموا منها فهي تتخطى العشرة آلاف ليرة. هكذا اصبحت كلمة “استقرار” من الماضي، ولا ترفيه ولا من يحزنون ولا حتى “شمة هوا” بعد ان انحدر مستوى العائلات من متوسط الى خط الفقر. فرانيا (معلمة مدرسة في المتن) التي كانت تصطحب أولادها سنوياً الى دولة ما، عادت “خليفاني سنوات” لتتخطى القساوة ظروف الحرب الاهلية سائلة: هل نحن مجبرون ان نخضع أولادنا لهذه الظروف، ولم؟ ومن أجل من؟ لم نتركهم لتحفر في ذاكرتهم أزمة البنزين، الكهرباء، الغذاء، الدواء، الخدمات كلها وفوق كل ذلك كورونا؟
هذا الألم في صوتها والذي يشي بحرقة باعتبارها وزوجها يعملان، ويكدّان ليل نهار ليؤمنوا قوتهم، تأتيهم ظروف لتنغص حياة أولادهم بعد ان عاشوا هم الحرب بعد ان تأملوا في السلم خيراً، ليكون خير بعض العائلات كعائلة دارين (كسروان) “خبز، زعتر، وقليل من الزيت” وهو غذاء أولادها وزوادة زوجها الى العمل وبعض المصاريف التي لا يمكن لراتبها وراتب زوجها سدها فاضطرت الى تعديل نمط حياة الأولاد وبيع كل مجوهراتها. التخدير الذي يعيش به المواطن، نمط معمم، والتعميم نفسه، أدخلهم دوامة، فبنظر عدد كبير من العائلات التي حاورناها لا حل للظروف المعيشية! وإن ناقشوا في السياسة، لا يبحثون الا عن الهجرة إن كانوا محظوظين، أو لهم صلة عائلية خارج الأراضي اللبنانية.