من يملأ الفراغ؟
كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن“:
بدأت ظاهرة استقدام العمالة الأجنبية في لبنان تنتشر بمنحى تصاعدي بعيد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. أمّا ما جعل من لبنان أرضاً خصبة لاستقطاب العمالة من جنسيات مختلفة، لا سيما العربية والأفريقية والشرق – آسيوية منها، فهو، إضافة إلى البعد المادي، المساحة التي يتيحها البلد لناحية حرية ممارسة الشعائر والعادات، ما يوفر للعامل الأجنبي فرصة الانخراط المجتمعي السلس على عكس بلدان أخرى أكثر محافظة وتحفظاً على هذا الصعيد. وهو ما أضاف تنوعاً على مجتمع غني بتنوعه أصلاً وكانت له نتائجه الملموسة في تنشيط قطاعات وملء وظائف عدة.
في العام 2019، ومع بدء جائحة كورونا وما سبقها وتلاها من ترنح الوضع الاقتصادي هبوطاً، برزت للعيان مسألة “إعادة هيكلة” سوق العمالة الأجنبية في لبنان. فخلال سنتين، تراجع، بحسب الأرقام، عدد سمات العمل الجديدة بنسبة 85%، ما أثّر بالمقام الأول على سوق عمال المتاجر والخدمة المنزلية ومحطات المحروقات والمطاعم، وجمع النفايات والزراعة ونواطير الأبنية وغيرهم. والحديث في هذا الإطار هو طبعاً عن العمالة الشرعية لأن لتلك غير الشرعية بحثاً آخر.
في المقلب الآخر، شهد لبنان موجات عدة من الهجرة لغايات العمل خلال الحرب الأهلية وبعدها، لتتزايد بشكل لافت مع ارتفاع أسعار النفط وخلق فرص عمل في دول الخليج برواتب مغرية. الأحداث الأمنية من اغتيالات وتفجيرات وحروب وتقهقر اقتصادي خلال الـ15 سنة الأخيرة، سرّعت هي الأخرى من وتيرة تفريغ البلد من الكفاءات والطاقات الشبابية. وعلى الرغم من أنّ التحويلات التي كان ولا يزال اللبنانيون في الخارج يرسلونها إلى ذويهم شكلت جزءاً مهماً من الناتج المحلي الإجمالي عبر السنين، إلّا أنّها أفقدت البلد قيمة مضافة كان يمكن استغلالها لتطوير الاقتصاد لو لم يغادر هؤلاء بأعداد كبيرة أساساً.
للمفارقة هنا ولأسباب اقتصادية تتعلق بالجائحة وتوتر العلاقات الدبلوماسية مع دول الخليج، ثمة أيضاً بوادر تبدّل في دينامية توظيف اللبنانيين في الخارج بشكل عام والخليج بشكل خاص. والحال أن الشركات – والأخبار المتواترة الآتية من هناك تؤكد على ذلك – شرعت بـ”اقتناص” فرصة واقع الأزمة اللبنانية لتخفيض رواتب اللبنانيين حيث أمكن، خاصة وأن بدائل “توفيرية” أخرى متوفرة من خلال اجتياح عمالة من جنسيات مختلفة للأسواق الخليجية.
فلنتعمّق أكثر على المقلبين.
هرباً من الأزمة الاقتصادية…
يقول مدير عام شركة Statistics Lebanon، السيد ربيع الهبر، أنّ الأزمتين الاقتصادية والمالية اللتين يمرّ بهما لبنان منذ نهاية العام 2019 ساهمتا في نواح عدة بتغيير نمط حياة اللبنانيين، ومنها مثلاً التخلي عن اعتماد اليد العاملة الأجنبية ولا سيما عاملات المنازل. فقد تراجعت الأرقام بشكل دراماتيكي إذ، بحسب دراسة أجرتها الشركة على سبيل المثال، تبيّن أنّ عدد العاملين الأجانب في الخدمة المنزلية تخطى قبل العام 2020 الـ250 ألف عامل، غالبيتهم من إثيوبيا، الفيليبين ودول أخرى في جنوب آسيا. هؤلاء بمعظمهم يعملون بواقع سبعة أيام في الأسبوع مشكلين ما نسبته 80% من إجازات العمل الممنوحة في لبنان. هذا إضافة إلى الذين يعملون “بالساعة” بموجب كفالات “غير واضحة”.
وإذ أشار الهبر إلى أنّ التراجع استقرّ نسبياً مع بداية العام 2021، فقد عزا الأسباب إلى تخلي من تخلى كلياً عن العامل (أو العاملة) الأجنبي إلى عدم القدرة على تسديد مستحقاته ومصاريفه بالعملة الأجنبية، في حين لا يزال المقتدرون يتمتعون بقدرة الاحتفاظ بعمالهم أو طلب عمال جدد.
وللوقوف عند رأي أصحاب الشأن، تحدثنا مع أحد أصحاب مكاتب استقدام عاملات الخدمة المنزلية في لبنان، الذي أكّد أنّ أزمة القطاع سبقت فعلياً حلول جائحة كورونا لكنّها تفاقمت حكماً بسببها ونتيجة تدهور سعر صرف الليرة. وأضاف أن “الأزمة الحقيقية هي مع الدول المصدّرة للعمالة، في ظل غياب تشريع الاتفاقيات بين لبنان وتلك الدول، ما يبيح هروب العاملات من بلدانهنّ الأم بهدف التقليل من الأعباء الملقاة على كاهل الكفيل، وهو ما يعرّضهن لمخاطر جمة، إذ، والحال كذلك، لا مرجعية شرعية يركنّ إليها في بلدانهن. هذه المعضلة التي لم تلقَ معالجة من قبل الحكومات المتعاقبة، عمّقت من أزمات أصحاب المكاتب والوكلاء”. وبحسب صاحب المكتب، فقد تدهور نشاط القطاع في بدايات الربع الأخير من سنة 2020 إلى حدود صفر بالمئة. ولم تفته الإشارة إلى تأثير مسألة تجميد حسابات المودعين في المصارف، إذ لم يعد في مقدور اصحاب المكاتب تسديد مستحقات الوكلاء في الخارج، ما أسفر عن إغلاق أكثر من 60 مكتباً مشابهاً حيث أقدموا على إلغاء رخص العمل الممنوحة لهم.
عن أزمة سعر الصرف وحول ما إذا ما كان صاحب العمل ملزماً بتسديد بدل أتعاب العاملة بالدولار الأميركي، يجيب بأن “القانون لا يحتّم الدفع بالدولار إذ ما زال عقد العمل يُوقّع على أساس سعر الصرف الرسمي، أي 1507.5 ل.ل. وفي حال أريد توقيعه على أساس السعر الموازي في السوق السوداء، يصبح العقد مكلفاً جداً لربّ العمل. بيد أن هذه المسألة كانت لتجد طريقها إلى الحلّ لو قامت الدولة اللبنانية بتوقيع اتفاقيات مع الدول المصدّرة للعاملات بحيث تصبح آلية الدفع – كما سائر القوانين – منظمة من قبل الدولتين المعنيتين”. باختصار، فإنّ إطار تنظيم العمالة الأجنبية في لبنان ضعيف جدّاً ويفتقر إلى التحديث، حيث لا يأتي في أعلى سلّم أولويات وزارة العمل. كما أنّ الحكومات المتتالية لم تكن حاسمة بالمجمل في تعاطيها مع الملفّ. فما بالك الآن والبلد يعاني الأمرّين على جميع الصعد.
العائلات تتأقلم مع واقع جديد
على قاعدة “رب ضارة نافعة”، تشير اختصاصية علم النفس، الدكتورة كارول سعادة، إلى أنّ تواجد العاملات في الخدمة المنزلية – وتراجعه حالياً – أثّر مباشرة في صميم الحياة العائلية. إذ لفتت الى أنّ “مغادرة العاملات من منظار علم النفس له تأثيره الإيجابي على الأولاد، بحيث يعطي التأقلم مع الواقع الجديد الولد قدرة على رسم صورة واضحة عن الأشخاص الذين يهتمون به (الأهل والمقربين منه كما المسؤولين عنه في الحضانة والمدرسة)، بهدف رفع منسوب الاحتكاك الصحي بينه وبين محيطه”. لكنها أضافت بالمقابل أنّ “للموضوع نتائجه السلبية أيضاً. فالضغط النفسي في تزايد مستمرّ على ربات المنزل بعد أن كنّ يتّكلن على عاملة الخدمة المنزلية في كثير من الشؤون اليومية، حيث بتنا نلاحظ في أحيان كثيرة حالة من الفوضى العارمة داخل المنزل نتيجة ضيق وقت الأمهات، والإرهاق الذي يتعرضن له لناحية التوفيق بين عملهنَّ داخل المنزل وخارجه، ما يساهم في توتير الجو العائلي ككلّ”.
اللبنانيون في الخارج يتأثرون أيضاً
نعود إلى أوضاع اللبنانيين العاملين في الخارج. هنا نسمع عن كثير من الحالات في ما يختص بتقلّص رواتب عدد كبير منهم، خاصة في الدول العربية وفق معادلة: إما الاستمرار بشروط جديدة أو البحث عن عمل آخر. فاللبناني الذي كان يتقدّم، مثلاً، لوظيفة لا يقلّ راتبها الشهري عن 4000 إلى 5000 دولار أصبح اليوم يرضى بنصف أو حتى ثلث ذلك الراتب. فجني أي كمية من العملة الصعبة يبقى أفضل من لا شيء لمساندة العائلة. لا تَرَف في الاختيار في ظل الظروف الراهنة، أقله في المدى المنظور. كيف لا وقد تدنّت رواتب اللبنانيين في بعض الأماكن في الخارج، بحسب بعض التقارير مؤخراً، إلى ما دون الـ50%!
من ناحيته، لم يعد العامل الأجنبي يرى في لبنان مركز استقطاب يجذبه. فبحسب الهبر، تراجع عدد عقود العمال الأجانب الجديدة من 67739 عقداً عام 2018 إلى 9409 عقود عام 2020. أمّا مجموع إجازات العمل الصادرة، فقد انخفض بدوره من 207757 إجازة عام 2018 إلى 119081 عام 2020. ثم في ما يختص بتحويلات العمال إلى ذويهم في الخارج، فقد تدنّت بشكل ملحوظ من 600 مليون دولار سنوياً إلى حوالى 20 مليوناً حالياً. وفي حين كان يقصد لبنان سنوياً حوالى 60 ألف عامل أجنبي، فإنّ هذا الرقم لم يتخطّ الـ10 آلاف عامل في العام 2020، وهو رقم يُرجّح أن يسجل مزيداً من التراجع نهاية العام الحالي.
هذه الأرقام معطوفة على ظاهرة خفض رواتب اللبنانيين في الخارج يطرح سؤالاً قديماً-جديداً: هل يفكّر بعض اللبنانيين، ممن يشغلون في الخارج وظائف مشابهة لتلك التي تشغر اليوم في لبنان وبظروف تبدو أكثر قساوة من ذي قبل، العودة إلى ربوع الوطن لملء تلك الشواغر؟
أزمة وفرصة
سؤال مشروع خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ اللبناني مستعدّ في حالات كثيرة للقيام بأعمال معيّنة خارج أرض الوطن في حين لا يقبل بمثيلاتها من الوظائف داخله. فما الروادع النفسية خلف ذلك؟ تجيب الدكتورة سعادة: “لا شك أنّ أول العوامل التي تدفع بكثيرين إلى هكذا تفكير تتجلى بالأفكار والعادات المكتسبة بما يخص نظرة الآخرين إليهم، والتي لا تكون منطقية بغالبيتها لا بل موروثة اجتماعياً على صعيد تقييم الإنسان لنفسه ونظرته الدونية إلى قيمته الذاتية، ما يؤثر على ثقته بالنفس ويجعله يخشى من حكم الآخرين عليه. هذه النظرة الخاطئة الناجمة عن مفاهيم اجتماعية متراكمة تدفع بهم للهرب من محيطهم حيث تؤمّن لهم بلاد الاغتراب فرصة التحرّر منها”.
بالمحصلة، تبقى الآراء متضاربة بما يتعلق بالعمالة الأجنبية. فالبعض يجد فيها ضرورة للنهوض بالعجلة الاقتصادية وقيمة مضافة للاقتصاد لأنها تؤمن الاستدامة في المهن التي يمتنع اللبناني عادة عن القيام بها. أما آخرون، فيرون فيها منافسة سلبية للعمالة الوطنية. فهل تفتح الأزمات الحالية – داخلياً وخارجياً – باباً لإعادة شيء من التوازن الايجابي بين العمالة الوطنية والأجنبية في لبنان حيث يكمّل أحدهما الآخر على نحو أكثر تكافؤاً وعدالة؟