في لبنان حتى الجثث…تُهاجر!
الهجرة اللبنانية الحديثة ليست حدثاً. لقد أصبحت خبراً كلاسيكياً، في ضوء الكارثة التي تعصف بلبنان.
ولكن عندما يتبيّن أنّ الأموات هم أيضاً يقدّمون أوراق الهجرة، فالمسألة تصبح أكثر تعقيداً.
وهذه الإشكالية ليست خيالية أو افتراضية بل هي واقعية، إذ إنّ ذوي سفير لبناني سابق مات في بداية هذا الشهر، فوجئوا بوصيته لهم: “إيّاكم أن تدفنوا جثتي، في لبنان. إختاروا المكان الذي ترونه مناسباً ولكن أخرجوا جثماني من لبنان”.
من عاشوا مع هذا السفير السابق، في الأشهر التي سبقت وفاته، ولو أنّ مضمون الوصية التي تركها قد فاجأهم، إلّا أنّهم تفهّموا أبعادها، إذ إنّ صديقهم السفير كان قد مرّ بتجربة نفسية قاسية جداً، عندما لم يستطع أن يتقبّل الكارثة التي عصفت بلبنان، فانهار راتبه التقاعدي، وصودرت مدّخراته التي ورث بعضها عن عائلته الثرية، وانقلبت حياته رأساً على عقب.
لقد أدرك في ظل المأساة أنّه كان يخدم بأمانة دولة خانت الجميع، وكان وفيّاً لنظام باع نفسه على قارعة الأمم، وأنّ التضحية من أجل العزّة التي ميّزته، تاهت في غياهب تسييد “الأزلام”.
وإذ عجز، وقد دخل مرحلة التقاعد، عن أن يهاجر، إختار أن يفعل ذلك، وهو جثّة، لأنّ كلفة الضريح، مهما ارتفعت، تبقى أبخس بكثير من كلفة الحياة في المهاجر.
لم يهتم أنّ الموتى لا يقيمون اعتباراً للحدود وللإقتصاد وللخدمات وللأموال. جلّ همّه تركّز على مشاعره تجاه وطنه الذي يسوده مَن دمّروه وسرقوه ونهبوه وباعوه وشوّهوه. لم يشأ أن يترك جثمانه بعهدة الظالمين، حتى بدا كأنّه لا يريد، في يوم القيامة، أن يلتقي بهؤلاء أو أن يحدّثهم أو أن يسمعهم. لقد اختار، بعدما وجد جسده سجين هؤلاء، أن يحرّر جثّته منهم.
قاسية هذه الرواية الواقعية، ولكنّها ليست بقساوة المعاناة الكبيرة التي يقصّها، بدموع في العيون وحشرجات في الحناجر ويأس في العبارات، اللبنانيون الذين لم يهرّبوا أموالهم الى الخارج، وليس لهم من يجود عليهم من المغتربات، وهم يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية المنهارة حيث لم يعد الحد الأدنى للأجور يشتري أكثر من ثلاث صفائح بنزين.
لقد قرّر هذا السفير السابق أن يحوّل جثّته الى سفارة أبدية تروي قصة بلاد يحكمها وحوش بمساعدة “أبناء آوى”.
سيرة حياة الوحوش في لبنان، لم تعد بحاجة الى سرديات جديدة. الجميع باتوا يعرفونها. وقصة “بنات آوى” في خدمة هؤلاء كذلك. أُنظروا الى تشريعاتهم، إلى محاكمهم، إلى قصورهم، إلى صبغة شعورهم، إلى البوتوكس في وجوههم، إلى عبارات التنصّل التي يتوسّلونها، إلى مسرحيات الحزن التي يؤدّون الأدوار الرئيسة فيها، وإلى الإكتشافات المذهلة عن المعابر غير الشرعية التي يتوصّلون إليها.
إنّ “الجثة المهاجرة” دليل تراجيدي على أنّ أخطر أعداء لبنان ليسوا هؤلاء الذين يحاولون احتلال أرضه والتعدّي على حقوقه، بل هم هؤلاء الذين يدفعون الشعب اللبناني الى كره وطنه.
الوقائع المذهلة التي يعيشها لبنان ويرويها اللبنانيون تكاد تؤكد أنّ أعداء لبنان هؤلاء بدأوا تحقيق أهدافهم.