الارتطام لم يعد بعيداً.. وباب المساعدات لمنع الكارثة ما زال مقفلاً وسيبقى!
كتب جوني منير في “الجمهورية”: تطوّرَ الشعور السائد لدى المطّلعين على الواقعَين الاقتصادي والمالي من القلق ليصِل الى الهلع. فالارتطام، الذي بات حقيقة، لم يعد بعيداً، وهو ما حدّده حاكم مصرف لبنان في مقابلته التلفزيونية بشهرين فقط. أضف الى ذلك انّ باب المساعدات لمنع كارثة الارتطام، والذي من المفترض ان يأتي من العواصم الغربية، ما زال مقفلاً وسيبقى طالما انّ السلطة اللبنانية لم تنفذ التزاماتها بإجراء الاصلاحات المطلوبة.
ففي الاشهر الاخيرة، وعلى رغم خطورة الوضع، واصلت السلطة الغرق في مستنقع الازمة الحاصلة، وهي سياسة متعمّدة كما وصفها تقرير البنك الدولي، والذي أضاف وقوداً بعجز المسؤولين اللبنانيين عن التوصّل الى اتفاق مشترك للعمل السياسي الفعّال.
في الواقع حافظ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على وعده بعَقد مؤتمر الدعم الاقتصادي للبنان، على رغم شكوى المصادر الفرنسية من عدم وفاء الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة بالتزاماتها بتشكيل حكومة جديدة لإطلاق الاصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي والعواصم الغربية المهتمة بالواقع اللبناني. لكنّ الدعم الفرنسي حمل في طيّاته رسالة صارمة الى السلطة اللبنانية، من خلال إيصال هذه المساعدات مباشرة الى الشعب اللبناني عبر المنظمات الدولية والصليب الاحمر ومن دون المرور بالمؤسسات الرسمية. ولا حاجة الى التكرار أنّ باريس، كما العواصم الغربية، تعتبر انّ الفساد يغلب على طريقة ادارة مؤسسات الدولة اللبنانية، ما يُحتّم التوجّه مباشرة الى العائلات اللبنانية التي أصبح أكثر من نصفها تحت خط الفقر، وفق تقرير البنك الدولي. وثمّة إشارة واضحة في الاجراء الفرنسي، وهو بمقاطعة مؤسسات الدولة اللبنانية، ما قد يشكّل بدايةً لمسار دولي جديد. أي ثمّة «دولة» رديفة يجري العمل على رعايتها لا علاقة لها بمؤسسات الدولة اللبنانية.
بالطبع، إنّ فقدان الثقة لا يشمل كافة مؤسسات الدولة اللبنانية المُتهمة بالفساد، فثمة استثناءات تلحظ في طليعتها الجيش اللبناني إضافة الى مؤسسات اخرى.
هنالك مَن اعتبر انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يشارك في مؤتمر وهو يمثّل دولة يترأسها، لكنها بدأت تفقد بعضاً من شرعيتها الدولية.
والواقع انّ الفوضى تعمّ طريقة أداء السلطة اللبنانية رغم هول الكارثة التي باتت على الابواب.
شركة «ألفاريز اند مارسال»، والتي كُلّفت إجراء التدقيق الجنائي، انسحبت من المستنقع المالي اللبناني بعد كثير من المآخذ التي سجلتها والتي نشرنا بعضاً منها في حينه، وآثرَت الابتعاد «لأننا استنتجنا انّ الجميع يريد ترتيب مخرج لا أكثر ولا أقل»، كما نُقِل عن مسؤول الشركة جيمس دانيال قوله في مجلس خاص.
وقد تكون الشركة شعرت أنّ هنالك من يريد التدقيق المالي لاستثماره في السياسة وليس للاصلاح الجدي. وعلى رغم الرسالة التي أرسلها في الامس وزير المال الى الشركة، الّا انّ الاعتقاد هو انها لن تعود. فحتى أتعابها الملحوظة في العقد لم تعد تريدها، لأنها باتت تفضّل صورتها وصدقيتها على أيّ شيء آخر.
والمصرف المركزي الفرنسي أبلغ الى لبنان في وضوح انه لا يستطيع ان يتولى مهمة التدقيق الجنائي، فهذا ليس اختصاصه، وانّ جُل ما يستطيع ان يساعد لبنان فيه هو تقديم استشارات تقنية.
رائحة النزاع السياسي كانت تفوح من ملف التدقيق الجنائي، والذي كان يَشي بذلك يتلخّص في التراشق الحاصل بين مبدأ السرية المصرفية وعلاقتها بحسابات مصرف لبنان وكواليس الهندسات المالية والحساب 36 المتلّعق بالقطاع العام، والذي هو أصلاً خارج نطاق السرية المصرفية.
وفي هذا التوقيت جاءت الرسالة الخارجية المزدوجة: واحدة من واشنطن عبر صحيفة «وول ستريت جورنال»، والثانية من باريس عبر صحيفة «لوموند» العريقة. مضمون الرسالة واضح لجهة وجود إصرار على كشف الاوراق المستورة، إضافة الى وجود تنسيق بين الاميركيين والفرنسيين حول لبنان.
ذلك انّ لغطاً داخلياً سادَ خلال المرحلة الماضية حول تشويش أميركي على المبادرة التي يقودها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول لبنان. وسادَ اعتقاد خاطئ على نطاق واسع في لبنان أنّ واشنطن منزعجة من المهمة التي تقودها باريس في لبنان.
في الواقع، لم تكن واشنطن في وارد تقديم الدعم المباشر للمهمة الفرنسية، لكنها بالتأكيد لم تكن ضدها ولم تعمل على إحباطها، لكن مع فوز جو بايدن بالرئاسة الاميركية أصبحت الصورة اكثر وضوحاً لجهة حصول تنسيق اميركي ـ فرنسي أكثر وضوحاً حيال لبنان.
فبعيداً عن المواقف المعلنة، والتي تكون كلاسيكية بمعظمها اكثر منها عملية، فإنّ واشنطن تريد حكومة في لبنان يكون وزراؤها، الذين سيتولون حقائب باتت معروفة ومحددة، من خارج تأثير الطبقة السياسية. لذلك، استخدم تعبير «وزراء تكنوقراط» أو «وزراء خبراء». في الواقع، المطلوب وزراء لا يخضعون لإملاءات وأوامر زعماء الطبقة السياسية الحاكمة. وحين طرحَ الرئيس نجيب ميقاتي ان تَتمثّل الاحزاب والقوى السياسية بوزراء دولة فقط، لم تكن باريس، وكذلك واشنطن، معارضة لهذا الطرح، ولكن بشَرط عدم خضوع وزراء الحقائب لأوامر المسؤولين الحزبيين.
في الواقع، تجزم الاوساط الديبلوماسية انّ اطراف الطبقة السياسية عادوا الى اللعبة القديمة، والتي تعتمد على اللعب على وَتر الغريزة الطائفية، لإنقاذ مصالحهم لا مصالح الطائفة. لكنها متفاجئة في أنّ هذه القوى السياسية والحزبية، إضافة الى المسؤولين الكبار، ما زالوا يضعون الاولوية لحماية مصالحهم الخاصة على رغم إدراكهم انّ البلد يتجه الى الهلاك، وانّ «حزب الله» يترك الباب مفتوحاً امام استمرار هذا النزاع. أولاً، لأنّ المنطقة دخلت مرحلة صعبة بسبب التصعيد الذي تتولّاه ادارة دونالد ترامب ضد ايران قبل رحيلها عن البيت الابيض. وثانياً، لأنّ انهيار ركائز الدولة اللبنانية وتَحطّمها سيَدفع بالبلد الى مسار آخر وسيُرغم الدول الكبرى والمعنية الذهاب الى تسوية لبنانية مبكرة تتضمن مؤتمراً تأسيسياً وإنتاج نظام سياسي جديد للبنان يرتكز على المثالثة. لذلك، ربما تتحرّك باريس بين ضوابط لتحقيق مبادرتها، وهذه الضوابط تتمحور حول: أولاً، عدم اعادة إنعاش هذه الطبقة السياسية. ثانياً، عدم دفع المجتمعات اللبنانية الى حال الجوع، وبالتالي فتح الشارع امام دماء الفوضى، وحيث تسجّل الارقام ارتفاعاً واضحاً في العمليات المُخِلّة بالامن والقانون. ثالثاً، عدم الانجرار في لعبة المَزج بين الملف اللبناني والنزاع الاقليمي الحاد، خصوصاً انّ المراهنين على انفراج فور وصول بايدن الى البيت الابيض، إنما يبدون غير واقعيين.
فعدا المفاجآت الامنية التي ينفذها ترامب، والتي قد يحصل مزيد منها، فإنّ بايدن قد لا يحمل سياسة مختلفة تجاه لبنان، والتي تقوم على الضغط على «حزب الله» والحَد من نفوذه داخل هيكل الدولة اللبنانية.
أضف الى ذلك، إنّ بايدن لن يلغي جانباً النقاط التي حققها ترامب ضد ايران، كما انّ طهران ايضاً لن تستطيع العودة الى المفاوضات في سهولة بعد كل ما أصابها، وهو ما يعني انّ المفاوضات التي ستحصل.
في نهاية المطاف، ستسبقها مرحلة متوترة نجح ترامب في إرسائها ولو انها لن تُبدّل من حَتمية التفاوض. وبالتالي، إنّ هذه المرحلة المتوترة ستُرخي بثقلها على لبنان الذي تَتمسّك إدارة بايدن بضرورة إضعاف تأثير «حزب الله» داخل سلطته.
وما يشجّع واشنطن على الاستمرار في هذه السياسة، «التَعب» الذي أصاب الجسم الشعبي الذي كان يُساند «حزب الله». ففي استطلاعٍ للرأي أجراه ديفيد بولوك ونَشره «معهد واشنطن للدراسات»، أظهرت الارقام تراجعاً ملحوظاً في الدعم الشعبي لـ«حزب الله». والاستطلاع الذي أُنجِز قبل نحو 3 أسابيع أظهَرَ انّ الحماسة الشيعية لـ«حزب الله» تراجعت من 83 % عام 2017 الى 66 % عام 2020، رغم انّ الفارق بقيَ في خانة المؤيّد لـ«حزب الله». ووضع معهد واشنطن السبب لتنامي الغضب من حال الفساد والازمة الاقتصادية الحادة. لكنّ التأييد لـ«حزب الله» في أوساط الطائفتين المسيحية والسنية تراجع الى 16 % عند المسيحيين و8 % عند السنة. أمّا عند الدروز فبلغت النسبة 14 %.
أمّا مفاوضات الحدود البحرية مع اسرائيل فهي حَظيت بتأييد 70 % من السنة و67 % من المسيحيين و51 % من الشيعة. أمّا بالنسبة لأهمية العلاقات اللبنانية مع ايران فإنّ 85 % من الشيعة يؤيدونها في مقابل 27 % من السنة و21 % من المسيحيين. وبالنسبة الى العلاقة مع تركيا فإنّ 65 % من السنة يؤيدونها في مقابل 27 % من المسيحيين و7 % من الشيعة.
لكنّ النتيجة اللافتة كانت في العلاقة مع فرنسا والتي أيّدها 94 % من السنة و87 % من المسيحيين و69 % من الشيعة و90 % من الدروز، في مقابل العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية التي سجلت تأييد 7 % من الشيعة و38 % من المسيحيين و46 % من السنة. ومعه تبدو الساحة اللبنانية اكثر تقبّلاً للمبادرة الفرنسية مع دعم اميركي خَلفي لها، ولكن وفق استمرار الاسلوب السابق بالضغط على الطبقة السياسية الحاكمة.
لكنّ السؤال كيف سيستطيع لبنان الصمود خلال فترة الضغوط المقبلة؟
من المُخجل القول انّ السلطة اللبنانية لم تنجح في ان تقدم اي خطط إنقاذية، بل قدّمت فقط سَعياً لإطالة فترة «النزاع»، كمثل ترشيد الدعم من خلال وضع رسوم على البنزين، ورَفعه عن المواد الغذائية، وإبقائه فقط على الادوية للأمراض المُلحّة. وهي خطوة تسمح بإنعاشٍٍ لشهرين أو أكثر قليلاً، ولكن لا نيّة في حل سياسي.