خفض الدين العام ممكن؟
كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
تعتبر هيكلة الدين العام من أولويات معالجة الأزمة. بقدر ما تظهر هذه العملية سهلة، بقدر ما تختزن صعوبات مادية تقنية وقانونية. لكن مهما كانت شائكة تبقى إلزامية. فعدم إتمامها سيُبقي الاقتصاد غير قادر على النهوض، وتأمين التمويل الضروري لحاجات القطاعين العام والخاص.
يقدر حجم الدين العام حتى نهاية 2021 بحوالى 99 مليار دولار (على سعر صرف 1500). وهو ينقسم بين 35.8 مليار دولار بالعملة الأجنبية (يوروبوندز)، تشكل 35% من مجمل الدين. و61 مليار دولار بالعملة الوطنية (سندات خزينة)، تشكل 60% من الدين. وحوالى 2.1 مليار دولار عبارة عن قروض ميسرة باليورو والدولار.
توزع الدين
حصة الديون الخارجية، أي تلك المقومة بالدولار بغض النظر إن كانت محمولة من لبنانيين أو أجانب، تبلغ نحو 36% من مجمل الدين، وتشكل العبء الأكبر. حتى نهاية العام 2018 كانت محفظة السندات يوروبوندز تبلغ 31 مليار دولار وتتوزع على الشكل التالي:
– المصارف تحمل سندات بقيمة 17 مليار دولار.
– مصرف لبنان يحمل سندات بقيمة تصل إلى 5 مليارات دولار.
– جهات خارجية تحمل سندات بقيمة 9 مليارات دولار.
المصارف اللبنانية تسيل محفظتها
إلا أنه مع بداية الأزمة في تشرين 2019 بدأت المصارف اللبنانية، التي كانت تحمل حصة الأسد، أوسع عملية تخلص من هذه السندات. وذلك على الرغم من انخفاض تصنيف لبنان ووصول سعر السند إلى حوالى 13 سنتاً للدولار. ومن الواضح أن المصارف التي سيلت سنداتها على السعر المنخفض لم تكن تخشى الاقتطاع منها، إنما كانت تبحث عن سيولة نقدية بالدولار وتتجنب أخذ احتياطيات او مؤونات على هذه السندات بنسبة 45 في المئة كما طلب “المركزي”.
ومع نهاية العام 2021 اختلف توزيع هذه السندات بشكل جذري. فـ”المركزي” حافظ على ما يحمله بقيمة 5 مليارات دولار، فيما تراجعت حصة المصارف إلى أقل من 8 مليارات وارتفعت حصة الاجانب إلى حوالى 20 ملياراً.
المفاوضات لم تبدأ بعد
اللافت للانتباه أن نسبة الدين العام للناتج ارتفعت من حدود 170% في العام 2019 إلى حدود 200% مطلع العام الحالي. والسبب الاساس يعود إلى تراجع الناتج المحلي من حدود 52 مليار دولار في العام 2019 بحسب تقديرات البنك الدولي إلى حدود 20.8 مليار دولار.
تأمين استدامة الدين
تفويت الفرصة تلو الأخرى أوصلنا اليوم إلى وضع لا نحسد عليه. وأمام هذا الواقع “من غير الممكن النظر إلى الدين العام بمعزل عن حجم الاقتصاد، ولا سيما في ظل إنهيار مصرفي ونقدي غير مسبوق”، برأي الاقتصادية المتخصصة بالاسواق الناشئة علياء مبيض. و”بالتالي فان تحقيق استدامة الدين لا تقاس على الحجم الاسمي للدين العام، أي بالرقم، سواء كان بالليرة اللبنانية أو الدولار فقط، ولكن كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي (أي حجم الاقتصاد).
وهذه النسبة ستتأثر بمجموعة من العوامل، منها:
– نسبة الاقتطاعات (هيركات) التي ستحدد حجم الدين الاسمي.
– أسعار الفائدة على الديون الجديدة التي ستتم إعادة هيكلتها.
– سعر الصرف المعتمد، والذي يمكن أن يتغيّر بفعل الاداء الاقتصادي الكلّي.
– العجز الأولي للموازنة، والذي يجب تخفيضه وتحويله إلى فائض أوّلي عبر انتهاج إصلاحات ضريبية وإعادة هيكلة الانفاق العام وزيادة فعاليته.
– نسب النمو المستهدفة، والتي يجب أن تكون مرتفعة، لا سيما في السنوات القليلة المقبلة.
ما يفهم من تحليل علياء مبيض أن “الاقتطاع من الدين يشكل الصدمة الأولى التي تؤثر على حجم الدين. إلا ان استدامة هذا الدين مرتبط من جهة بقدرتنا على تحقيق فوائض أوّلية بالموازنة (أي فائض الإيرادات على النفقات دون فوائد الدين)، ومن جهة أخرى، بتحقيق مستويات نمو اقتصادي حقيقي مرتفعة، في ظلّ نظام نقدي ومصرفي سليم يسمح باستقرار سعر الصرف (وليس تثبيته).
“التركيز إذاً، يجب أن يكون على حجم الاقتصاد من خلال اعتماد سياسات توصلنا إلى تحقيق أكبر نسبة نمو ممكنة من خلال اعتماد سياسات مالية ونقدية محفزة على الاستثمار والتصدير، والقيام بالاصلاحات الهيكلية. هذه البديهيات تتطلب اعتماد خطة انقاذية تحدد بوضوح كيفية تخفيض الدين من جهة، وزيادة نسب النمو من الجهة الأخرى، على أن يترافقا مع بعض الاستقرار في سعر الصرف. ذلك أن طالما سعر الصرف يتدهور طالما قيمة الناتج المحلي الاسمي تنخفض، ونسبة الدين إلى الناتج ترتفع. وهذا ما يعيدنا إلى أهمية إيجاد حل لاعادة هيكلة ميزانية مصرف لبنان ومعالجة خسائره، ولا سيما الدولارية منها، وانتهاج سياسات نقدية تساهم في إعادة بناء احتياطات “المركزي”. وعليه فان معالجة الدين لا تحل بشطبه فقط، انما بمقاربة شاملة ومتكاملة. هذه القاعدة هي “101” الخروج من الأزمة وتحقيق مسار انحداري بنسبة الدين إلى الناتج.
تحديات النمو والتصحيح
إن التوصل إلى هذه المستويات المرتفعة من النمو التي تخفض نسبة الدين من الناتج ليست بالسهولة الظاهرة، ولو أنها ليست مستحيلة. وهي تتطلب، بحسب مبيض، “وقتاً ليس بقصير لتنفيذ الاصلاحات الهيكلية بهدف إعادة إنتاج نموذج إقتصادي جديد يؤسس لمحرّكات نمو مستدامة بعيدة عن النشاطات الريعية”.
كما ولا بدّ من زيادة في الإنفاق الاستثماري لدعم نسب النمو، مما قد يتعارض مع أهداف السياسة المالية الهادفة إلى تقليض العجز. فالصعوبة التي ستواجهنا في تحقيق فوائض أولية مرتفعة من وجهة نظر مبيض “تتمثل في حاجة الاقتصاد إلى انفاق اجتماعي واستثماري كبيرين في السنوات المقبلة لحماية المواطنين والمجتمع من جهة، وإعادة إطلاق العجلة الإقتصادية من جهة أخرى، بعد التدمير الممنهج الذي خلّفته هذه السلطة السياسية”. وبالتالي فان “الإفراط في التقشّف سيعمّق المشكلة ويؤخر التعافي، ومن غير المجدي محاولة تحقيق فوائض أولية بنسبة 3 و4 في المئة من الناتج في العام الأول من تنفيذ أي برنامج مع صندوق النقد، فهي تضر أكثر مما تنفع، ولا بدّ هنا من المواءمة بين مختلف هذه الأهداف”.
الاقتطاع من الليرة والدولار
على عكس كل الآراء التي تنادي بعدم الاقتطاع من ديون الليرة ترى مبيض أنه “حتى لو أصبحت قيمة الدين الداخلي بالليرة 4 مليارات دولار على أساس سعر صرف 20000 ليرة للدولارالواحد، فهي لا تزال تشكل 18 إلى 19 في المئة من الناتج، وهذا رقم كبير. وبالتالي من الضروري الاقتطاع من “اليوروبوندز” والدين الداخلي على حد سواء حتى نصل إلى دين مستدام عبر اتفاق مع الدائنين في إطار برنامج مع صندوق النقد. فلا بدّ أن نستهدف نسبة تقارب 75% على الأكثر في نهاية السنوات الخمس المقبلة لكي نفتح فسحة مالية للإنفاق الاجتماعي الاستثماري، ولكي لا يبقى الاقتصاد يرزح تحت أعباء الديون كما في السنوات العشرين الماضية”. هذه النسب من الدين إلى الناتج ستمكن لبنان من إعادة تحسين تصنيفه الإئتماني بشكل يسمح للقطاعين العام والخاص العودة إلى الأسواق المالية العالمية لشحذ التمويل الضروري لعملية التنمية وإعادة النهوض، من وجهة نظر مبيض.
ولكن تبقى المعضلة الأساس تتمثل في تأثير الاقتطاع على خسائر القطاع المصرفي والمالي وخيارات توزيع الخسائر. ذلك أنه كلما اقتطعنا أكثر من الدين، كلما زادت الخسائر في القطاع المالي والمصرفي. وبالتالي صارت خيارات توزيع الخسائر أصعب سياسياً ومجتمعياً، لانها ستؤثر على شريحة أوسع من المودعين. وبحسب مبيض فان “كامل الزيادة في الدين العام الداخلي بالليرة خلال السنوات الخمس الاخيرة نجم عن زيادة محفظة لبنان من هذا الدين التي اصبحت تشكلّ أكثر من 60% من مجمل الدين بالليرة في نهاية العام 2021. ما يعني أن الاقتطاع من الدين بالليرة أيضاً سيؤثر بشكل مباشر على خسائر مصرف لبنان والمصارف، لا سيما وأن ودائع الأخيرة لدى مصرف لبنان شكّلت حوالى 64% من أصولها في نهاية العام 2021. فكلما اقتطعنا أكثر من الدين، كلما تحمل مساهمو المصارف والمودعون من بعدهم خسائر أكبر.