لبنان على موعد مع أم المعارك
كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
أسبوع يفصل لبنان عن موعد انتخابات اللبنانيين في الاغتراب بين 6 و8 أيار/مايو، وأسبوعان يفصلانه عن موعد الانتخابات النيابية العامة للمقيمين في 15 الشهر ذاته، وسط تراجع التكهنات باحتمال تأجيل الانتخابات على الرغم من تحديات برزت وتبرز تباعاً في وجه هذا الاستحقاق، ووسط ترتيبات لوجستية وإدارية لم تُنجَز بكاملها بعد وأبرزها شح الموارد المالية «الكاش» وامكانية الالتزام بالوعد بتزويد مراكز الاقتراع بالتيار الكهربائي ليلاً للفرز وتوزيع رؤساء الأقلام من موظفي القطاع العام واعتراض القضاة والأساتذة، الأمر الذي يجعل من انتظار إنجاز كل هذه الترتيبات انتظاراً ثقيلاً قد لا يخلو من مفاجآت غير محسوبة، حتى أن بعض أهل السلطة وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون أوحى بوجود «جهات تعمل على تأزيم الوضع». وهذا الأمر إن حصل يؤدي عملياً إلى تأجيل الانتخابات ولاسيما أن الساحة اللبنانية تتميّز بأنها هشّة ومعرّضة لاهتزازات بشكل دائم، مثلما حصل بعد حادثة غرق «قارب الموت» في المياه الإقليمية اللبنانية التي استدعت غضباً واسعاً في طرابلس، وتصعيداً ميدانياً على الأرض لأهالي الضحايا المنكوبين الذين كادوا يوضعون في مواجهة مع الجيش اللبناني الذي تزداد على أكتافه الأعباء الأمنية للحفاظ على الاستقرار وتأمين أجواء هادئة للاستحقاقات المرتقبة، في ظل تصاعد الحملات السياسية والانتخابية وخصوصاً بين الفريق السيادي والفريق الممانع.
أغلبية الثلثين!
وقبل أسبوعين من الموعد، تختلف القراءات للنتائج المرتقبة من الانتخابات بين قائل أولاً إنه لن يكون هناك تغيير كبير في النتائج وإن حزب الله سيحصد الأغلبية النيابية مجدداً وصولاً حتى إلى نيل ثلثي أعضاء المجلس أي 86 نائباً ما يؤهله وحده لاختيار رئيس الجمهورية المقبل وحتى امكانية تعديل الدستور لشرعنة سلاحه، وبين مشكك ثانياً في هذه القراءة مراهناً على إعادة تزخيم الصوت السني بموازاة الحركة المسيحية والدرزية لعدم ترك الساحة خالية لاختراقها من حزب الله بعد قرار الرئيس سعد الحريري و«تيار المستقبل» بالعزوف عن خوض الانتخابات. وإذا كان حزب الله حصد بحسب تصريح قائد فيلق القدس السابق اللواء قاسم سليماني 74 نائباً من أصل 128 في انتخابات 2018 فهو إن لم يحافظ على هذه النسبة في انتخابات 2022 يكون قد تراجع ويكون الفريق السيادي قد تمكّن من الصمود والمواجهة على الرغم من قرار الحريري والخلافات التي تعصف داخل بيت «المستقبل» والتي ظهّرت إلى العلن أخيراً بين أمين عام التيار احمد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة الذي يرفض أن يطل علينا قائد الحرس الثوري الإيراني الجديد، بعد 15 أيار ليزف إلينا سيطرة إيران وحزبها على ثلثي مجلس النواب.
مناورة الصواريخ
وعلى الطريق إلى الانتخابات، لفت التحضير لإطلاق صواريخ مجهولة نحو شمال فلسطين المحتلة نجح بينها صاروخ في بلوغ هدفه فيما فكّك الجيش صاروخين آخرين. وتزامن إطلاق هذه الصواريخ مع إعلان أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أن حزبه أجرى مناورات صامتة في الجنوب وهو سيرد سريعاً على أي خطأ أو حماقة إسرائيلية ولن نسمع عبارة الاحتفاظ بحق الرد في الزمان المناسب والمكان المناسب. وهذا يعني أن أرض الجنوب ستبقى غير مستقرة ومعرّضة لاختلالات أمنية ترفع من احتمالات التفجير في أي وقت وتطيح بدربها بالاستحقاقات المنتظرة وتخلق واقعاً جديداً. أما إذا لم تؤد المناورات الإسرائيلية المرتقبة في ايار/مايو إلى توتر وتصعيد فعندها تجري أم المعارك الانتخابية التي يستعد لها معظم القوى على اعتبار أن هذه الانتخابات مصيرية لأنها لا تحدّد فقط هوية البرلمان الجديد بل تحدّد أيضاً هوية رئيس الجمهورية المقبل.
وبات معلوماً أن شعبية التيار الوطني الحر تراجعت بنسبة كبيرة في معظم الدوائر، ويذهب بعضهم إلى حد توقّع أن ينخفض عدد نواب هذه الكتلة إلى النصف في سياق تراجعي بعد الفشل الذي مُني به عهد عون وتياره الذي لم ينجح في تطبيق شعاره الشهير «الإصلاح والتغيير» لا بل إنقلب هذا الشعار رأساً على عقب وانتشر الفساد والهدر أكثر فأكثر ودخلت المحاصصة في كل القطاعات والتوظيفات، وبدل الوعود بتأمين الكهرباء 24\24 غاب التيار الكهربائي 24\24 وبدل شعار «بكم الدولة أو الدويلة» الذي رفعه الجنرال عون عام 1989 لمحاربة «دويلة» القوات اللبنانية ومحاولة إلغائها ومحاصرتها مسيحياً، التصق عون الرئيس بدويلة حزب الله بدل العمل على بناء الدولة اللبنانية وتحالف مع الميليشيا المسلّحة، الأمر الذي أدى إلى عزلة الدولة اللبنانية عن محيطها العربي وإلى انهيار اقتصادي ومالي وخدماتي.
تراجع التيار
وإزاء هذا التراجع الكبير في شعبية التيار نتيجة الالتصاق بدويلة حزب الله والتغطية على سلاحه غير الشرعي، وهو أمر لا يستسيغه المسيحيون وعلى رأسهم البطريركية المارونية، يندفع حزب الله لتوفير الدعم لحليفه في الدوائر المختلطة وصولاً إلى تجيير نواب له كي لا تكون كتلة القوات اللبنانية هي الأكبر مسيحياً وكي يستمر العونيون بتأمين الغطاء المسيحي للحزب. وهذا ما يفسّر الضغوطات بالترغيب والترهيب على مرشحين شيعة كي ينسحبوا من لوائح مدعومة من القوات للتقليل من حظوظ الفوز ولاسيما في دائرة بعلبك الهرمل لإسقاط مرشح القوات النائب الحالي انطوان حبشي.
وإذا كان الثنائي الشيعي يعبّر في الظاهر عن ارتياحه لسير الانتخابات ولحصوله على 27 نائباً شيعياً من 27 إلا أن هذا لا يخفي القلق لدى الثنائي من حال التململ في صفوف البيئة الشيعية من الخيارات التي أوصلت البلد إلى جهنم والتي لولا التضييق عليها وأساليب التخويف وما بات يُعرَف بـ«السحسوح» لترجمت نقمتها على الأوضاع المتردية بالامتناع عن التصويت كحد أدنى وبالتصويت ضد لوائح الثنائي في صناديق الاقتراع كحد أقصى. ولا يخفى هذا التململ على قيادة حزب الله التي سعت لتجييش جمهورها وتصوير الانتخابات كأنها «حرب تموز» جديدة ضد الحزب والقول إن كل من يتحالف مع القوات يكون يتحالف مع قتلة شهداء الطيونة، ليردّ عليها رئيس حزب القوات سمير جعجع إن «من يتحالف مع حزب الله يتحالف مع قتلة الرئيس رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز».
توازنات الجبل
ولكن على الرغم من فائض القوة والتهديد لدى حزب الله، يستمر الفريق السيادي بالمواجهة سياسياً وبالموقف وهو ما يفعله رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي قرّر منذ البدء التحالف مع القوات في الجبل حفاظاً على روحية 14 آذار/مارس وعلى المصالحة التاريخية التي رعاها معه البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير ويسير على خطاها البطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي الذي لا يتوقف عن إطلاق الرسائل المحذّرة من أي مشروع للهيمنة على لبنان وتغيير هويته والانتقاص من سيادته. ويسعى جنبلاط للحفاظ على التوازنات في الجبل وعدم كسرها وتغيير قواعد اللعبة كما يشتهي حزب الله الذي عينه على عدد من المقاعد الدرزية في الشوف وبيروت الثانية والبقاع الغربي وإذا استطاع في بعبدا.
ومن المعروف أن جنبلاط الذي سارع فور عزوف الحريري إلى التغريد «تيتّم الوطن والمختارة حزينة وحيدة» كان يعتمد على الصوت السنّي المرجّح في بيروت الثانية وفي إقليم الخروب والبقاع الغربي وحاصبيا ليرتفع حاصل اللوائح ويضمن فوز مرشحيه الدروز، لكنه إزاء هذا العزوف سعى للدفاع عما تبقّى من مقاعد نيابية للدروز وهي بمجملها ثمانية كانت المختارة تستقطب منها ستة مقاعد في مقابل مقعد للأمير طلال ارسلان في عاليه وآخر للنائب أنور الخليل في حاصبيا. ولهذا تحالف مع اللائحة المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة في بيروت الثانية ومع لائحة النائب محمد القرعاوي في البقاع الغربي وضمّ إلى لائحة «الشراكة والإرادة» في الشوف المرشح سعد الدين الخطيب المعروف بقربه من «تيار المستقبل». ويعوّل الزعيم الدرزي على انضمام مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى المطالبين بالمشاركة في الانتخابات خلافاً لقرار سعد الحريري. وكانت لافتة رسالة المفتي مطلع شهر رمضان من أن «زمن التسليم والخوف انتهى، وانطلق وعد الثورة على الظالمين والمستبدين والفاسدين» وتلميحه لأول مرة إلى حزب الله من دون تسميته، حيث انتقد «الإسقاط الفظيع لحرمات المؤسسة العسكرية وصلاحياتها والأجهزة المسلحة لصالح ميليشيا، بل ميليشيات خاصة تأتمر بأوامر الخارج».
العودة الخليجية
كما يعوّل جنبلاط وجعجع ومعهما السنيورة على العودة الخليجية إلى لبنان والسعودية تحديداً لإعادة نوع من التوازن السياسي على الساحة اللبنانية والعودة لاحتضان لبنان عربياً وتشجيع الناخبين السنّة على الاقتراع بدل الانكفاء وألا ينشغل جمهور «المستقبل» بالانقسامات الحاصلة في صفوفه بين من يرفع اللافتات وصور الحريري تأييداً لقراره بالمقاطعة وبين من ينضم إلى السنيورة ليواجه محاولات حزب الله اختراق الساحة السنية في غفلة من الوعي.
وهكذا بناء على كل تلك الوقائع، فإن أمام الشعب اللبناني فرصة أيام متبقية ليحزم أمره وليتخلص من منظومة السلاح والفساد التي أوصلت اللبنانيين إلى الفقر، وأوصلت الدولة إلى الانهيار. وأمام شعب 14 آذار وانتفاضة 17 تشرين/أكتوبر التي تعدّدت لوائحها بدلاً من أن تتوحّد، فرصة جديدة للتغيير في صناديق الاقتراع وتحويل استحقاق 15 أيار إلى يوم مفصلي في التاريخ مرة جديدة. فإذا أحسن الناخبون الاختيار يمكنهم نقل لبنان إلى ضفة أخرى تتوقف معها مراكب الموت الذاهبة نحو المجهول ويتوقف الغرق في قوارب الهجرة غير الشرعية كما حدث قبل أيام في بحر طرابلس هرباً من طبقة حاكمة تقود البلاد وتبحر بالشعب من دون سترة نجاة نحو مصير جهنمي.