هل تورطت روسيا بـ “إبادة جماعية” في أوكرانيا؟
كتب موقع “الحرة”: لم يكن وصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، ما يجري في أوكرانيا بـ “الإبادة الجماعية” مجرد جملة عابرة، بل هو مؤشر على أن المواجهة مع روسيا وصلت إلى مستويات لم تكن متوقعة، خاصة بعد الكشف عن الفظائع التي ارتكبها الجيش الروسي بحق المدنيين الأوكرانيين.
ومصطلح “الإبادة الجماعية” له أبعاده القانونية التي يترتب عليها اتخاذ خطوات لمحاسبة المسؤولية عن هذا الانتهاك.
ويرجع ذلك جزئيا إلى معاهدة الإبادة الجماعية التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي وقعتها الولايات المتحدة وأكثر من 150 دولة أخرى، وهي اتفاقية لا تجعل العالم يدين هذا الفعل فحسب، بل يضمن مقاضاة المتورطين فيه.
وقال رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إن سلوك روسيا في أوكرانيا “لا يبدو بعيدا عن الإبادة الجماعية”، لكن المملكة المتحدة لم تستخدم المصطلح رسميا، وقال جونسون إن المحكمة وحدها هي التي يمكنها إصدار مثل هذا التصنيف
فيما امتنع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن استخدام هذا المصطلح، وهو موقف ندد به الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي.
ماذا تعني كلمة “Genocide”؟
تعبر كلمة الإبادة الجماعية عن جريمة حدثت بشكل متكرر منذ قرون، لكنها تعتبر حديثة، وهي من صياغة المحامي اليهودي البولندي، رافائيل ليمكين.
وفي ذروة الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، أراد ليمكين كلمة لوصف ما كانت تفعله ألمانيا النازية آنذاك بيهود أوروبا، وما فعلته تركيا بالأرمن في بداية القرن العشرين.
تعني الكلمة بشكل مبسط قتل أعضاء مجموعة مستهدفة من الناس، والعمل بلا رحمة للقضاء على ثقافاتهم.
قام ليمكين بإقران كلمة “geno”، وهي كلمة يونانية تعني العرق، و “cide”، وهي كلمة لاتينية تعني القتل، لتصبح الكلمة “القتل على أساس عرقي”.
كرس ليمكين حياته للاعتراف بالإبادة الجماعية وتجريمها.
في عام 1948، بعد أن قتل أدولف هتلر وشركاؤه بشكل منهجي 6 ملايين يهودي في أوروبا، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
ما هو التعريف القانوني؟
وبموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، يحاول فاعلو الجريمة تدمير جماعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية، جزئيا أو كليا.
ويشمل ذلك عمليات القتل الجماعي، ولكن أيضا الإجراءات التي تشمل التعقيم القسري، وسوء المعاملة التي تلحق ضررا جسيما أو معاناة نفسية، أو أخذ أطفال مجموعة مستهدفة بعيدا لتربيتهم من قبل الآخرين.
هل ترتكب روسيا إبادة جماعية في أوكرانيا؟
تتهم القوات الروسية على نطاق واسع بارتكاب انتهاكات بالجملة بحق المدنيين الأوكرانيين، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي.
وستكون تلك الأفعال جرائم حرب. ولكن هل ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية؟
الأمر كله يتعلق بالنية، كما يقول بوهدان فيتفيتسكي، المدعي العام الفيدرالي الأميركي السابق والمستشار الخاص السابق للمدعي العام الأوكراني.
وأضاف “أي محاولة لتحديد ما إذا كانت الجرائم التي ترتكبها القوات الروسية في أوكرانيا مدفوعة بنية الإبادة الجماعية يجب أن تركز بالضرورة على تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين”، كتب فيتفيسكي لمركز أبحاث المجلس الأطلسي هذا الأسبوع.
ولطالما نفى بوتين أي أساس لوجود أوكرانيا كدولة منفصلة، أو الأوكرانيين كشعب منفصل، ويستشهد بالتاريخ، عندما كانت أوكرانيا جزءا من الإمبراطورية الروسية، وبعد ذلك من الاتحاد السوفيتي.
وفي مقال طويل العام الماضي، بعنوان “حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين”، أوضح بوتين عمق تصميمه على هذه المسألة، ووصف الحدود الحديثة التي تفصل بين روسيا وأوكرانيا بأنها “مصيبتنا ومأساتنا المشتركة الكبرى”.
ويصف بوتين ووسائل الإعلام الحكومية الروسية زورا القادة الأوكرانيين بأنهم “نازيون” و”مدمنون على المخدرات”.
ووصف بوتين حملته العسكرية في أوكرانيا بأنها حملة إزالة النازية.
ويشير جيسو نيا، محامي حقوق الإنسان الذي عمل في محاكمات جرائم الحرب في لاهاي، إلى عملين مزعومين من جانب روسيا في أوكرانيا ربما يظهران أيضا نية الإبادة الجماعية، أولهما التقارير عن ترحيل آلاف الأطفال الأوكرانيين إلى روسيا، ورواية من الحكومة الأوكرانية عن جنود روس قالوا لـ25 امرأة وفتاة محتجزة في بوتشا إن الروس يهدفون إلى “اغتصابهن لدرجة إنهن لن ينجبن أبدا أي أطفال أوكرانيين”.
لماذا من المهم استخدام “الإبادة الجماعية” لوصف تصرفات روسيا؟
ومن بين الالتزامات المضمنة في اتفاقية الإبادة الجماعية التزام تعاملت معه الولايات المتحدة وغيرها من الموقعين على المعاهدة بحذر، هو إن الأطراف إذا اعترفوا بحدوث إبادة جماعية، فإنهم ملتزمون بضمان التحقيق والمقاضاة، على الأقل.
وتعلن المعاهدة أن الأشخاص والبلدان التي ترتكب الإبادة الجماعية “ستعاقب”، سعيا إلى سحق أي مجال للمناورة.
وتهرب قادة الولايات المتحدة لعقود من الزمن من استخدام كلمة “إبادة جماعية” لتجنب زيادة الضغط عليهم للعمل بمواجهة عمليات قتل جماعي تستهدف فئات من الناس أو الجماعات العرقية في كمبوديا والبوسنة والعراق ورواندا وأماكن أخرى.
وأعرب بيل كلينتون عن أسفه لفشله في بذل المزيد من الجهد لوقف مقتل 800 ألف من التوتسي على يد الهوتو في رواندا عام 1994.
وأصبح كلينتون أول رئيس أميركي أطلق وصف الإبادة الجماعية على أفعال تجري في دولة أخرى حينما قال إن القوات الصربية التي شنت حملة مميتة ضد الألبان في كوسوفو تحاول القيام بإبادة جماعية.
وتدخل حلف شمال الأطلسي وشن 78 يوما من الغارات الجوية التي أجبرت المقاتلين الصرب على الانسحاب من كوسوفو.
واتهمت محكمة دولية الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش بارتكاب جرائم حرب، على الرغم من وفاة ميلوسيفيتش قبل انتهاء محاكمته.
وابتداء من عام 2005، تبنى زعماء العالم أيضا من حيث المبدأ المسؤولية عن العمل الجماعي لوقف الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ومع ذلك، تستمر الفظائع والحملات المستهدفة ضد الجماعات في جميع أنحاء العالم.
ماذا يحدث إذا أعلنت الولايات المتحدة أن الإجراءات الروسية إبادة جماعية؟
لطالما خشي قادة الولايات المتحدة من أن الاعتراف بالإبادة الجماعية سيتطلب منهم التدخل، وربما حتى إرسال القوات، مع كل المخاطر والتكاليف ورد الفعل السياسي العنيف الذي قد يترتب على ذلك.
وكان هذا السبب الرئيسي الذي جعل القادة يقتصرون على التصريحات الغاضبة والمساعدات الإنسانية.
ويصر بايدن على أن الولايات المتحدة لن تستخدم جيشها لمواجهة القوات الروسية نيابة عن أوكرانيا، ويقول إن القيام بذلك من شأنه أن يخاطر بالحرب العالمية الثالثة.
ودعا بايدن وغيره من القادة الغربيين إلى محاكمة الروس بتهم جرائم حرب.
وقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية بالفعل تحقيقا، لكن معارضة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة للمحكمة الجنائية الدولية بسبب مخاوف من أن تواجه القوات الأميركية المحاكمة فيها يوما ما تعقد مثل هذه الملاحقات القضائية.
وكذلك الحال بالنسبة لحق النقض الروسي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
كما إنها من الناحية العملية، فإن تقديم بوتين إلى المحكمة أمر بعيد المنال.
وفي الماضي، ساعدت معارضة الأميركيين للتورط في الحروب الخارجية أيضا في تثبيط القادة الأمريكيين عن بذل المزيد من الجهد لوقف أعمال الإبادة الجماعية المحتملة.
لكن غزو روسيا لدولة مجاورة ووحشيتها ضد الشعب الأوكراني أغضبا الأميركيين بطريقة لم تفعلها حملات الإبادة الجماعية في كمبوديا والمناطق الكردية في العراق وأماكن أخرى.
ووجد استطلاع حديث أجرته وكالة أسوشيتد برس ومركز نورك لأبحاث الشؤون العامة أن 40 بالمئة من الناس في أميركا يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن يكون لها “دور رئيسي” في إنهاء الغزو الروسي.
وهناك 13 بالمئة فقط يعتقدون أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تشارك على الإطلاق.
ويقول موقع VOX الإخباري إنه في حين أن خبراء في جرائم الحرب توصلوا إلى نفس النتيجة التي توصل إليها الرئيس بايدن، فإن معظم الخبراء الآخرين والسلطات الدولية لا يزالون غير متأكدين بشأن الإبادة الجماعية.
ومعظم السلطات المعترف بها، بما في ذلك هيئات مراقبة الإبادة الجماعية المستقلة مثل المتحف التذكاري الأميركي للهولوكوست، لم تنضم بعد إلى بايدن في القول إن مثل هذه الحملة تحدث في أوكرانيا.
لكن بعض الخبراء، مثل عالم السياسة بجامعة جونز هوبكنز يوجين فينكل، مستعدون لوصف ما يحدث بالإبادة الجماعية.
وكان فينكل، وهو باحث في الهولوكوست ولد في أوكرانيا، متشككا في الادعاءات الأوكرانية بالإبادة الجماعية في وقت مبكر من الصراع. لكن أحداث الأسبوعين الماضيين غيرت رأيه.
ويقول فينكل إن أهوال بوتشا – حيث أعدمت أسر بأكملها – لم تكن حوادث معزولة، مشيرا إلى أدلة على عمليات قتل مدنية أخرى في بلدات تحتلها روسيا.
ونفت روسيا أن يكون جنودها مسؤولين عن عمليات القتل في بوتشا، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الثلاثاء إن التقارير عن الفظائع هناك “مزيفة”..
ويقول الموقع “يتفق كل مراقب جاد تقريبا على أن روسيا ارتكبت سلسلة من جرائم الحرب في أوكرانيا، بدءا من إعدام المدنيين إلى الهجمات على المستشفيات. في الواقع، من الواضح أن الغزو نفسه هو جريمة حرب كبيرة”.
هل يمكن محاكمة بوتين بتهمة الإبادة الجماعية؟
كلما كان هناك دليل على ارتكاب جرائم حرب، هناك دائما حديث عن نوع من العقاب على تلك الجرائم. ودعا بايدن، حتى قبل أن يصف الحرب بأنها إبادة جماعية، إلى محاكمة بوتين.
لكن الموقع يقول إنه باستثناء ثورة أو انقلاب في روسيا، يكاد يكون من المستحيل تخيل مثل هذه المحاكمة.
ولا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية، التي لديها ولاية في محاكمات جرائم الحرب وغيرها من الفظائع، أن تتصرف من دون إحالة القضية إليها من مجلس الأمن الدولي، حيث تتمتع روسيا بحق النقض.
وفي حين أن المحاكم الوطنية في بعض البلدان لديها “ولاية قضائية عالمية” – مما يعني أنها مخولة قانونا بمقاضاة جرائم الحرب المرتكبة في أماكن أخرى – فإنها ستحتاج إلى وضع يدها على بوتين من أجل القيام بذلك.
وطالما أنه في السلطة، يمكنه ببساطة أن يختار عدم السفر إلى تلك البلدان